كان مُتوقعاً من «السعودية» بعد خلاصها من حركة «جُهيمان» في (4 ديسمبر 1979) أن تُجري إصلاحات تعليمية وثقافية تستأصل بها شأفة التطرّف وتجفف منابعه، لكي لا تتكرر حادثة الحرم مُستقبلاً، ولو في مكان آخر، وشكل مختلف.. كما حدث في تفجيرات (11سبتمبر2001).
إلاّ أنَّ العكس تماماً هو ما حصل. والأرجح أنّ سببه: مواجهة الخطر الشيوعي بطلب وتعاون من حُلفاء المملكة. وهو ما أكده ولي العهد السعودي «محمد بن سلمان» في رده على أسئلة صحيفة «واشنطن بوست» ومجلة «اتلانتك» الأميركيتين خلال شهري «مارس» و«إبريل» الماضيين.
اندفع النظام السعودي لتبني رؤية أميركية تسربت عبر الأميرين «نايف بن عبدالعزيز» وزير الداخلية، و«تُركي الفيصل» رئيس الاستخبارات العامة. خُلاصتها:
استغلال همجية الاحتلال الشيوعي لـ«أفغانستان» ومظلومية شعبها البسيط في تهييج عواطف المُتدينين.. بحيث تصبحُ مسرحاً لتفريغ شُحنات التعصب الديني التي غرستها مدارس «الحديث» في عقول وقلوب غالبية المواطنين السعوديين، وكثير من العرب والمسلمين.
وفي غضون أشهر أصبحت القضية الأفغانية في بؤرة اهتمام السعودية.. من الملك إلى المواطن البسيط.
إيران «الخميني» دخلت أيضًا معمعة الجهاد الأفغاني، إذ لا يُعقل أن ترفع لواء الثورة الإسلامية، وتتخلى عن شعب تربطها به أواصر القربى والجوار.. وثُلث سُكانه من نفس مذهبها الديني.
في اليمن؛ عاد الشيخ «مقبل الوادعي» إلى بلدته «دمّاج» بشهادة ماجستير في «أحاديث الدار قطني» ولغة مشحونة بمفردات اللعن والتكفير ومغلفة بمنهج الجرح والتعديل كرّسها لمواجهة وإضعاف المعجبين بثورة الخميني.. وبعد طرد السفير الإيراني من «صنعاء» لقي تشجيعاً لنشر المذهب السُني السلفي في مناطق الزيدية، إضافة لفك التشابك بين إخوان اليمن ورموز الفقه الزيدي الذين انضوى مئات من شبابهم في حركة الأخوان المسلمين منذُ أن رعى «حسن البنّا» ثورة «عبدالله الوزير» ضد الإمام يحيي (عام 1948).. وليس في الأمر مُبالغة إذا قلنا إنّ معظم قيادات إخوان اليمن، وتجمع الإصلاح حالياً، هُم أبناء لأسر زيدية المذهب.
لم يمض وقت طويل على إدارته لـ«معهد علمي» تابعٍ للإخوان المسلمين، حتى قام الشيخ الوادعي بتسليمه لوزارة التربية والتعليم، وتأسيس معهد لـ«دار الحديث» توسع لاحقًا إلى قرية كاملة، يؤمها طُلابُ مع أسرهم، من مُختلف دول العالم، و تَوزّع طلابه بعد سنوات لتفريخ دورٍ مماثلة للحديث في مختلف أنحاء اليمن.. من أبرزهم مدرس مصري مؤهله ثانوية عامة، وصار شيخاً.. اسمه «أبو الحسن مصطفى بن اسماعيل السليماني المصري» مقره في محافظة «مأرب»، و«محمد الإمام» في "معبر" محافظة ذمار، و«أبو عبد الرحمن العدني» في "الفيوش"، محافظة لحج.
وبعد وفاة الوادعي (يوليو 2001)، خلفه «يحي الحجوري» في «دار الحديث» بـمنطقة «دماج»، التي بلغ عدد سُكانها قرابة «17» ألف شخص، بحسب تصريح الناطق باسمهم «سرور الوادعي».
ومع ظهور حركة «الحوثيين»، صار المعهد الذي كان مركزاً للتوثُق من الأحاديث المنسوبة للنبي، مركزًا للتدريب والتأهيل الحربي برعاية شاملة من القائد العسكري علي مُحْسن الأحمر.
وقبل أربعة أعوام ونصف تمّ إجلاء حوالي «15» ألف شخص منهم، باتفاق رعته الرئاسة.. وإيعاز من سفيري بريطانيا وأميركا، ضمن رؤية رحب بها رئيس الاستخبارات السعودية السابق «بندر بن سلطان» وفقاً لما قاله «عبدربه هادي» لهم.. وصورت وسائل الإعلام خروجهم بطريقة عكست الإذلال والتخلي والتردد في إعادة توطينهم بين أكثر من مكان، في تعز والحديدة، إيذانًا بظهور مظلومية جديدة لمواجهة قادمة.. من الواضح أنّ اليمن تخوض غمارها في الوقت الراهن.
يؤكد الدكتور «أحمد الدغشي» في كتابه «السلفية في اليمن»، الذي ألفه بالاتفاق مع «مركز الجزيرة للدراسات والأبحاث» في «الدوحة».. وصدر عام (2014)، أنّ الشيخ الوادعي كان يتلقى دعماً - لم يحدد كيفيته وحجمه -من الشيخ السلفي «ربيع بن هادي المدخلي»، المقرب من النظام في السعودية. وبعد وفاة «الوادعي» استمر «المدخلي» في دعم خليفته «الحجوري» لسنوات ضد مناوئيه حتى اختلف معه إثر وصفه لثوار (2011) بالخوارج!! ومعارضته لفتوى الشيخ «صالح اللحيدان» الداعية للثورة على الرئيس السابق «علي عبدالله صالح» بسبب ما قاله عن تمكينه لـ«الحوثيين» في «صعدة» ودفعهم للتجرؤ على حدود السعودية!! وأضاف أنّ المدخلي رفض استقبال الحجوري بعد طرده وطلابه من دماج، وذهابه للعمرة في (فبراير 2014)؛ على خلفية اتهامه له بمحاولة استقطابه للعمل مع المُخابرات السعودية.
ولعلّ مما يحسن ذكره هنا أنّ مؤلف الكتاب (الدكتور الدغشي) حُبس في سجن الأمن السياسي في صنعاء عام (2003) قرابة ستة أشهر بعد مقتل القيادي الاشتراكي «جار الله عمر» على يد شقيق زوجته «جار الله السعواني» ولَم تتوافر تفاصيل كافية حول أسباب الحبس ونتائج التحقيق.
كذلك «جامعة الإيمان» قامت - هي الأخرى - بتخريج آلالاف من السلفيين المنضوين في تكوين حركة الإخوان المسلمين منذ أسسها «عبدالمجيد الزنداني» على أرض منحتها له الدولة مكافأة على مشاركته في حرب صيف (1994).. وتكفلت «قطر» بنفقات إنشائها وتشغيلها عبر جمعيات خيرية في إطار تنافسها مع النظام السعودي الداعم للسلفيين في«دمّاج».
في مصر.. مع دخول القرن الهجري الرابع عشر، كان الرئيس الراحل «أنور السادات»، منهمكًا بإصلاح الشأن المصري الداخلي، بطريقته الأبوية، التي خلقت له عداوات مع مُعظم الشخصيات والتنظيمات السياسية.
أضف إلى ذلك أنّ الشارع المصري كان مصدومًا من ردود أفعال الزعماء العرب على توقيع السادات لاتفاقية "كامب ديڤيد" للسلام مع إسرائيل، (17 سبتمبر 1978) وقرار الدول العربية -عدا عمان والصومال والسودان - في قمة «بغداد» نقل مقر الجامعة العربية إلى تونس، وتعليق عضوية «مصر» رُغم كثافتها السكانية.. وقوتها العسكرية.. وموقعها الجغرافي.. ودورها المحوري في العالم العربى والأفريقى. وما سَبَبَهُ ذلك من عزلة وقطيعة أثرت على مواردها الاقتصادية.
وجاء استقبال الرئيس «السادات» لـشاه إيران «محمد رضا بهلوي» ليؤجج ضده معظم الخُطباء والوعاظ المبشرين حينها بثورة «الخميني»، وعلى رأسهم الشيخ الضرير «عمر عبدالرحمن».. الذي أنهت جامعة «الإمام محمد بن سعود الإسلامية» إعارته؛ في إطار الاستراتيجية التي أعقبت القضاء على حركة جهيمان.. فكان مع «أحمد المحلاوي» و"عبدالحميد كُشك"، من كبار المحرضين على التخلص من السادات.. الأمر الذي دفع بـ: عبد السلام فرج، عبود الزُمر، خالد الإسلامبولي، سيّد إمام، - وبقية أعضاء الخلية التي خططت لقتل السادات واُصطلح على تسميتهم بـ «تنظيم الجهاد»- لتنصيبه أميرًا شرعيًّا عليهم.
وحظي تمكنهم من قتل السادات في (6 أكتوبر 1981) - في مشهدٍ بثته شاشات التلفزة على الهواء وقت حدوثه - بتعاطف ودعم معظم الخُطباء ومشايخ الدين في دول الخليج واليمن وكثير من الدول العربية.. حتى صاروا نجوماً تلهج بذكرهم منابر المساجد.. ووصل الحال إلى تبرئة أميرهم «عمر عبدالرحمن» بعد أربع سنوات من الحبس.. وهروب «أيمن الظواهري» أحد قيادات التنظيم من «ليمان طُرّة»، إلى سواحل مدينة «جدة»، ثم إلى «طهران» عبر «دمشق»، ليظهر - بعد فترة - في أفغانستان. ويصبح له شأن في محاربة الحكومات التي يقول إنها لا تحكم بشرع الله.
وانتقل «عمر عبدالرحمن» إلى أفغانستان.. وبعد خروج الروس، مُنح «تاشيرة» إلى أميركا للإقامة في نيويورك، تقديراً لدوره الكبير في التحشيد للجهاد الأفغاني.
اكتمل سيناريو مواجهة الشيوعيين باستقطاب الجماعات السلفية الجهادية والحركات الشيعية.. وبينهما الأخوان المسلمون.
وتقاسمت السعودية وإيران مع حُلفائهما، الدعم المالي واللوجستي والعسكري للمجاهدين!
حيث ظل ولاء الجماعات السلفية لفترة حكرًا على «المملكة» وحلفائها مثل «الكويت».. والشيعية مثل «حزب الله» على «إيران».
أما جماعتا «الإخوان المسلمين»، و«الجهاد»، وما تفرع عنهما من حركات وتنظيمات، على غرار «حماس» و«القاعدة» فقد استفادتا إلى وقت قريب من إيران والسعودية وبقية دول الخليج.. وعملتا على تذويب الفوارق بين السنة والشيعة تنفيذاً لوصايا حسن البنّا وتعاليمه لاستعادة الخلافة.
تحولت أفغانستان إلى مهوى للشباب العربي.. لدرجة أنّه كان يقال: من مات ولَم يذهب إليها مات ميتة جاهلية.. ولعب مشايخ الخليج ومصر واليمن دوراً كبيراً في التحريض على القتال فيها... غير أنَّ إخوانياً أردنياً من أصل فلسطيني هو «الدكتور عبدالله عزَّام» كان له الدور الأبرز في تنشئة وتأهيل من صاروا يُعرفون بالأفغان العرب.. وله السبق في حقنهم بجرعات الإرهاب والرُعب وتأصيلها بالفقه المؤسلم. وهو، على خلاف من جاء من بعده.. كان يدرك أنّ قتالهم في أفغانستان يَصُب في مصلحة الولايات المُتحدة، ولا بأس من الاستفادة منه واستثماره في إعداد الجيل القرآني الفريد الذي كتب عنه سيد قُطب.. كما كان يرى أهمية التوجه بعد أفغانستان لمُقاتلة إسرائيل والقضاء عليها أولاً.
وعبدالله عزام هو خُلاصة مُكثفة لكتب «سيد قطب».. وحلقة وصل بين تنظيم «الأخوان» و«السلفيين» وصديق حميم لـ«محمد بن ناصر الدين الألباني» مُحقق الأحاديث التي تحولت إلى نبوءات مُبشرة بعودة الخلافة..
وصارت خُططاً استراتيجية ينبغي الالتزام بتفيذها بكل حذافيرها سعياً للوصول للدولة الإسلامية.. كان مُدرساً للشريعة في «جامعة الملك عبدالعزيز» في جدة.. مثله مثل عشرات القيادات الإخوانية المتناثرة في جامعات ومدارس المملكة، ومن بينهم: محمد قُطب، مناع القطان، محمد الغزالي، سعيد حوى، عبدالفتاح أبو غُدة، حسن الترابي... وعبدالمجيد الزنداني.
كما أنَّه الأب الروحي لـ «أسامة بن لادن» مؤسس «القاعدة».. الذي كان يُفاخر بكونه: ابن الأرض التي باركها الرسول؛ فوالدته من الشام ووالده من اليمن.. ولقنه «عزام» حديث مقاتلي «عدن - أبين» الذين ينصرون الله ورسوله. وحديث النار التي تخرج من قعر عدن لتقود الناس إلى المحشر.. مُفسراً له النار بالحرب التي تندلع شرارتها من عدن حتى تعم الجزيرة وتبلغ أرض العراق والشام.. وبموجب هذين الحديثين أسس أسامة بن لادن عام 2009 تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
لكن مشروع عبدالله عزام لم يكتمل.. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي.. سقط مُضرجاً بدمائه.. لتبدأ بمقتله مرحلة مُختلفة وجديدة.