منذ الربيع العربي الهالك، الذي شاطت طبخته واحترق الوعاء الجماهيري بما حمل من أمنيات، وحتى تحين “معركة هرمجدون” المتخيلة، يبدو أن الإعلام الرخيص سيلعب قدراً كبيراً من الأدوار في المجتمعات العائدة إلى “الوراء” الغائر في الجهل وفي التناحرات السياسية بغطاءات دينية. ولهذا سوف تُبهت كثير من العقول وينكفئ الرواد قسراً على حكمة صمتهم، مفسحين الطريق للهرطقة اليومية، وتزدهر أسواق التفاهات وحالة “الموات المعنوي” للقيم وللحقيقة وللصدق.
الفضاءات مختنقة بعوادم السوشيال ميديا، بعد أن أصبحت ثاني أكسيد كاربون الدول النائمة المفككة، ترسم مسارات منحرفة للعقل الجمعي وقد تصيبه بالعقم وتقعده عن قدرة التفكير السليم في القضايا الجوهرية، فيطفو على السطح مهرجو ومثقفو المصائب اليومية، وتتحول المنصات الإعلامية إلى حلبات المصارعة الحرة.. تصيب بالغثيان من يتابع فبركات الكذب وفنون التأجيج والتلفيق والتزوير.
ويا لحظ المواطن العاثر مهما تكون أبعاده، إلا أنه يتعامل مع الأمر مثل ابتلاء لا مفر منه. وما منكم إلا واردها، فمنها تُبنى أمجاد تُقاس بعدد المتابعين الغوغاء ومنها تُسلخ جلود المجتمعات كالشياه المذبوحة ويتم الاشتباك اليومي المحموم بمناهج متعاطي “الفلاكا” من العقاقير الرقمية لتطلق جيلاً من زومبيات العوالم الافتراضية.
لهذا تمر أزمات كبرى وتتعمق دون أن تحظى بنقاش واعٍ ومتأنٍ وموضوعي يسهم في نشر قناعات حقيقية للبشر كي يجدوا مقاربات سليمة بدلاً من هذا التسونامي الذي لم يعد يُرى إلا كطوفان من الهذيان.
وفي حالتك أيها الجنوبي، وقد أدمنت القهر والمظلوميات، فإنك تساهم بشكل انتحاري في نشر غسيل التفاهات اليومية التي تسعى لتقطيعك أوصالاً، فتوصل الخبر السيء المفبرك بيديك العاريتين وعبر الأثير، المكتظ بسيل العرق النازف من جبينك المتعب بالحرارة والخوف، إلى نطاق واسع، وتساهم في صناعة النجومية للأيادي السوداء من ذوات الجيوب الفاغرة العميقة التي تجتهد عند مطلع كل شمس في تمزيق النسيج الاجتماعي وبث السموم الإعلامية والخطاب المناطقي المطعّم بالتوابل الحزبية المعادية والتي تسعى إلى إغراق المجتمع بالفوضى وتقديمه قرباناً لأهداف معروفة.
لا يختلف الإعلام الأسود عن الرايات السوداء، فالكل يعمل على إحداث صدمات متتالية ويومية لاجتثاث أي تطلعات للمجتمعات من أجل الحرية وبناء مستقبلها المشرق والمستقر بعيداً عن القوى القديمة التي تعيد إنتاج الذات بصور أكثر بشاعة.
لا شيء عفوي في الحالة الجنوبية، فهناك موازنات ضخمة تُصرف بشكل منظم، وهناك جهود حزبية معادية، وهناك حاملو لواء التناحة المتوارثة الذين تستهويهم الإثارات والثارات ونفخ الذات و”تخسيس” الآخر في إخراجات شبه مرَضية.. فاللاوعي الجنوبي لديه كثير من التشوهات بفعل الأحداث المؤلمة والمراحل التي حمّلته ما لم يتحمله شعب آخر في العصر الحديث قياساً إلى التقلبات الدراماتيكية التي عاشها.
حالة التيه المخيفة التي تضخَّم إعلامياً في الجنوب تعود إلى حقيقتين: أنه (في الأولى) انقطع عن جذوره ولم يحمل له التاريخ المقروء سوى شذرات متواضعة عن حياة المجتمع التي عاشها قروناً عديدة في سلطناته وإماراته قبل نوفمبر ٦٧، وأما الثانية يمكن تلخيصها بأن الجنوب عاش في وضع اللادولة منذ أحداث يناير ٨٦ م.. وحتى وإن وجدت هياكلها المصدومة وقوامها المشروخ، إلا أنه منذ ذلك اليوم أضحى شعباً معوّماً فوق الغياب الحسي والمعنوي عن حقائق المستقبل وتطلعاته في ظل فقدان الثقة بالدولة “الما بعد يناير”، وكذلك، بالطبع وبأكثر قسوة، دولة الوحدة الهشة بما حملته من انقلاب شامل على كافة معاني الحياة التي ألفه…