ما شهده الجنوب، مؤخراً، من جدل، كردة فعل على إشهار حلف قبلي في مدينة عدن، من جهة يبعث التفاؤل، ومن جهة أخرى يسبب الإحباط ويثير السخرية في الآن نفسه. المضحك أن يتحدث رجل دين "عن القبيلة التي تقوّض الدولة المدنية" وهو بالوقت نفسه يقاتل بشراسة من أجل تمكين الجماعات الدينية، ويسعى جاهداً إلى فرض هيمنتها على الحياة السياسية والاجتماعية. الأمر أشبه بلص يستنكر قيام لصٍ آخر بسرقة الممتلكات العامة، مع أنه بالوقت نفسه يسعى جاهداً إلى سرقتها بأي طريقة كانت.
بالنسبة للتأثير على الحياة المدنية فكلاهما يؤثران بشكل سلبي، ولكن كفة القبلي هي الأرجح من حيث بنيته الفكرية التي يُمكن تطويعها ليتقبل الحياة المدنية، ويتعايش معها دون تعارض أو صدام إذا ما فُرضت عليه كأمر واقع، على عكس الجماعات الدينية التي تفكر بعقلية صدامية، وهدفها السيطرة على المجتمع وفرض أفكارها بالقوة مهما كلفها ذلك.
تاريخياً أثبتت القبيلة أنها تدافع عن مصالح أفرادها وزعمائها فقط، وولاؤها للجغرافيا التي تقيم عليها أكثر من ولائها للدولة، وقد فشلت بالدفاع عن الدولة الوطنية ومؤسساتها، وأمامنا تجربتان: الأولى، عندما راهن عليها هادي للدفاع عن الدولة، حينها تبخرت المجاميع القبلية مع اللحظة الأولى من اجتياح مدينة عدن. والأخرى، تجربة صالح المعروفة والمجال لا يتسع لذكرها. وخطورة القبيلة ليس هذا وحسب بل إنها إذا ما عادت في الجنوب إلى الواجهة السياسية ستعود بخلفية مناطقية، وسيتم توظيفها في إطار الصراع المناطقي المحتدم بالفترة الأخيرة، وهذا الصراع عادةً ما يقسّم المكونات السياسية فما بالك بالقبيلة التي هي مهيأة لذلك؟ البعض ينكر وجود هذا الصراع، ولكن، شئنا أم أبينا، هو موجود على أرض الواقع، بفعل تصرفات النخب السياسية المراهقة التي تؤجج هذا الصراع بلجوئها إلى حشد أتباعها من أبناء المنطقة نفسها لفرض رؤيتها السياسية أو للحفاظ على مصالحها الخاصة ونفوذها
أمّا الجماعات الدينية رغم عدم إمكانية توظيفها بالصراع المناطقي داخلياً، إلا إنها عابرة للحدود ومن السهولة توظيفها في الصراع الإقليمي بحكم ولائها للمذهب الديني أكثر من الولاء للدولة الوطنية ومؤسساتها. وخطورتها أنها خلال السنوات الماضية قد غيّرت على الواقع أشياء كثيرة، وأصبحت لها حاضنة شعبية كبيرة، وازدادت الأمور تعقيداً بالحرب الأخيرة حين تحوَّلت إلى مليشيات مسلحة، وإذا ما انتهت الحرب ستعود هذه المليشيات إلى عدن وستُستخدم كأداة لقمع كل من يعارض توجّهاتها وأفكارها.
وهنا نتحدث عن الجماعات التي لها حضورها بالأوساط الاجتماعية وتمارس نشاطها علنياً، وليس التنظيمات الأشد تطرفاً والتي تمارس الأنشطة السرية وتقوم بالاغتيالات والتفجيرات. طبعاً مع العلم أن هذه الجماعات الدينية "الكيوت" تربطها بالتنظيمات الأشدّ تطرفاً علاقة غير مُباشرة، وعادةً ما تكون جسر عبور إلى الجماعات الإرهابية أو أرضية خصبة "لتفقيس" الإرهاب.
وإذا ما نظرنا إلى نشاط وفاعلية هذه الجماعات التي لها حضورها العلني، سنجد أنها بالسنوات الأخيرة تفرض أسلوب حياتها كأمر واقع في مدينة عدن، على سبيل المثال، قبل أيام قام إمام مسجد في المنصورة بخطبة عصماء ضد المقاهي التي انتشرت بكثرة مؤخراً، وبعد تلك الخطبة بيومين تم تفجير أضخم مقاهي المدينة ليثير الرعب والهلع في نفوس الجميع، وهذا يدل على سرعة تجاوب العناصر المتدينة مع دعوات موجّهيها الذين يقتصر دورهم على إصدار الفتاوى من خلال المنابر، ليتلقفها فيما بعد المنفذ الفعلي الذي يُقدِم على ارتكاب الجريمة دون تفكير، وبغض النظر عن صحة الفكرة من عدمه. وقس على ذلك أيضاً قمع الأنشطة الثقافية الشبابية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تصفية الشاب أمجد عبدالرحمن وآخرين بنفس الأسلوب، الذي يبدأ بالتحريض ثم بعد ذلك ينتهي بالتنفيذ. بالإضافة إلى تضييق الحريات ومحاربة عمل منظمات المجتمع المدني... إلخ.
وإذا ما كان ولاء القبيلة للسلطة الحاكمة مقابل حصولها على امتيازات مالية ونفوذ لزعمائها، فإن الجماعة الدينية أشد خطورة من هذه الناحية، إذ يكون ولاؤها للسلطة الحاكمة مُقابل إتاحة الفرصة لها للسيطرة على الفضاء العام، وتولّي قيادة المجتمعات المحلية فعلياً من خلال منابر المساجد والمؤسسات التعليمة، فتفرض حضورها بقوة وتجبر المجتمع على ممارسة أسلوب حياتها رغماً عنه، بل وتتعامل مع الإنسان العاقل وكأنه طفل لا يدرك مصالحه وعليه أن يؤمن بمبادئها مهما كانت خاطئة وإلا فإنه سيصبح بنظرها مجرد كائن "مسخ" بلا أخلاق، وقد يصل الأمر إلى قتله بتهمة الردة.
الفضاء العام هو ملك الجميع، وآخر ما توصلت إليه التجارب الإنسانية لحفظ هذا الفضاء هو وجود نظام يكون حاضناً لكل التيارات والجماعات دون أن يطغى أحد على الآخر، نظام يقوم على قوانين عادلة تنصف وتحمي الجميع وما دونه استمرار للعبث والصراعات. والآراء الناقدة لهذين الطرفين البارزين ليس سعياً لإلغاء أو إقصاء، كما يحاول البعض أن يفسرها، بقدر ما هي دفاع عن الحياة المدنية التي خنقتها عنجهيتهما ودعوات لهما للتفكير بعقلية التعايش والقبول بالآخر بعيداً عن عقلية الإقصاء والسيطرة بالقوة.