نبيل الصوفي
يوم لعلي عبدالله صالح.. في وداع الجمهورية اليمنية
في ذات اليوم الذي فُجع فيه اليمنيون في كل مدينة وقرية بمقتل الزعيم علي عبدالله صالح، وبعد 12 شهراً، رتبت الأمم المتحدة لطاولة تقول إنها للتفاوض بين اليمنيين ممثلي إيران وممثلي السعودية ليتعلموا كيف يصبحون جماعة واحدة تتقاسم السلطة في حكم اليمنيين آخذين “الحكمة ولو من السويد”.
اليوم 4 ديسمبر.. إذاً، ويجدر القول إنه لم يخن علي عبدالله صالح، إلا نفر جبنوا عن المواجهة.
الخيانة لم تتم لعلي عبدالله صالح.. فهو ذهب مدركاً معركته ولم يبنِها على جهود أحد كان يتوقع تقدمه وتخلفه..
كان يعرف الجميع.. ويعرف اللحظة وذهب لها كأنه ينفذ عملية استشهادية.
لكن الخيانة تمّت للحظة التي كانت ستختصر الطريق إلى معتوه مران.
مؤتمريون كُثر ارتبكوا في 2011، في مواجهة الطامعين ببلح الثورة بعدما التهموا عنب النظام..
وارتبك الجميع لحظة وقّع "علي عبدالله صالح" المبادرة الخليجية، وأصرت الدولة التي استلمها عبدربه منصور على إسقاط المبادرة، والاستمرار في استثمار الثورة والثوار..
لأكثر من عام كنتُ أزور الرجل يومياً في 2013 ولم يكن يزوره أحد إلا نادراً.. قضيتُ معه وقتاً كإنسان عادي بدأ يقلب في دفتر الماضي حتى إنه اتصل بأصحاب له انقطع منهم من الستينات والسبعينات.
وكلما انشغل ببيته وأشجاره وطيوره وأصحابه، زاد ضجيج الفاشلين يستحضرونه ليقولوا إنه يفشلهم..
وهو، كيمني يشبهنا.. يتابع ما يقولون بشغف كأنه يشاهد مسرحية.
وفي 2014 ارتبك من بقي معه، فتمكن الحوثي من صنعاء، ويوم دخل الحوثي صنعاء قلت له: "الدور علينا". فقال: "قد مِتُّ في 68 والباقي للآن إلا زيادة".. وقد كتبت هذا يومها.
حاول جرّ يد الحوثي للبرلمان، وكان أول لقاء يعقد في بيته مع حوثيين، وبعد الاتفاق على الذهاب للبرلمان اختفى من اتفق معهم وظهر حوثيون جدد، وهكذا يفعلون حتى الآن، معهم وجوه للكذب باسم الاتفاق ووجوه للكذب باسم الحرب..
وفي يوليو 2016 ارتبك العالم كله، حتى إن الأمم المتحدة أعلنت، عبر ولد الشيخ، أن اتفاق إنشاء المجلس السياسي بين الموتمر والحوثي "انتهاك لقرار مجلس الأمن ويقوض العملية السياسية".
هذه المنظمة التي تحتشد اليوم للحوار مع الحوثي اعتبرت اتفاقاً سياسياً معه في صنعاء "جريمة".
وحين هبّت لحظة انهار فيها الحوثي في قلب دولته وتساقطت مناطقه كأنها تسلم عهدتها للدولة فعلاً بما كان سيقرر صدق أكاذيب أن الحوثي مجرد "رنج عفاشي".. وظهر عبدالملك الحوثي متعلثماً يرجو حكمة صالح، وصل الارتباك ذروته، هذا خاف، وهذا طمع، وهذا بدأ الاحتفال، ودار كل شيء..
هم، إذاً، خانوا أنفسهم التي ستتمزق ألف مرة بعد ذلك.. وبلادهم التي تنهار..
أما صالح فقد واصل طريقه إلى الخلود، منقطعاً عن كل ما يعيق.
الفاتحة لروحك يا علي..
كان معكم في كل لحظات الانتصار، أمَا وقد اخترتم طريق الهزائم فقد ترجّل وقال لبلاده "وداعاً" مسجلاً كلمة مخلدة مع لعلعة الرصاص.
سمعتها منه بأذني: "سأقاتل أنا وعيالي".
كان يدرك، تمام الإدراك، ما هو ذاهب إليه.
وحين استنجد بالشعب لم يفعل ليسانده هو وعياله، ولا ليدافع عن بيوته..
أذكر أني قلت له، وهو ممسك بيد خالد الديني وأمامنا عارف الزوكا وبيننا علي معوضة: "أين هي شخصيات المؤتمر.. وسمّيت له جلال الرويشان وأبوراس ويحيى الراعي"..
وتناقشنا قليلاً.. محاولاً أن يتصل بهم، لكن نظرته لمعوضة الذي يفترض أنه يتصل لم تكن تشجع على الاتصال وأعقبها بقوله: "ما أقول لهم تعالوا دافعوا عن بيتي".
قلت لكم.. كان يمنياً أصيلاً في كل شيء، صواباً وخطأً.. إقداماً وإحجاماً، كرماً وإمساكاً.. عقلاً ومجهالة حتى..
إنساناً طبيعياً، يمثلنا كشعب تربى في الشعاب والوديان..
يفعل ما يجعل رأسك يكبر به للسماء ثم ما يجعلك تتلفت غضبان أسِفَا تتمتم "عيب عليك يافلان"..
ولحظتها كان يرى نفسه عادياً لا يجب دعوة أحد للدفاع عن بيته.
بل كان يقول لجنوده، "اللي يشتي يروح منكم يروح.. مسامحين..".
وفي لحظة لن تُنسى من وجع تفاصيل لا قيمة لذكرها الآن، قال لعمر أبو شوارب: "رح لك، قد نحن نقاتل"..
ولعمر هذا، قصة بطولة خرافية، هو الوحيد الذي قاتل من آل شوارب.. وهو الوحيد من معتقلي ديسمبر الذي هرب من بيت عبدربه بعد أشهر من الاعتقال فيه مع آخرين. وقصة هروبه تستحق أن تروى..
صالح، هذا الرجل الذي صال وجال في اليمن لو كان هتف للناس: يا غارتاه أنا محاصر، كان سيموت كمداً ولو هبّت له الجموع، لهذا قال لا.. فاطمأن الناس أنه المنقذ.
هكذا اعتاد الناس عليه 49 سنة، منقذاً.. وهكذا قدّم نفسه.
أما استنجاد بالناس يوم خطابه فلقضية أخرى.. لعلهم يصدقون أنه لم يعد في عمره ما يساعده على تنفيذ أكاذيب شرعية الإخوان.. عن طمع استعادة السلطة ولا من أبنائه من هو قادر على وراثته.
لذا خرج يقول للناس: اخرجوا لأجل بلادكم ودولتكم، داعياً رجال الدولة كل يعود منصبه.. وقال "أما أنا قد انتهيت".
توقعهم مدركين الفارق.. لم يصدق هذا الرجل السبتمبري أن سبتمبر ماتت بسبب هؤلاء الرجال الذين كبروا في عهده على ظهر الجمهورية، لكن في حقيقتهم هم لاشيء..
وهم، إذاً، تركوا الحوثي يفعل ما يشاء، واختار الله صالحاً للقائه، شهيداً مقبلاً بعد أن استنفد كل محاولاته.
تاركاً غثاء كثير من المرتبكين.. الذين حتى اليوم لم يحسموا أمرهم بإدراك أنها إما اليمن أو الحوثي.. وأن من قال إنه قتل صالح كي يتوحد القرار بيده، لن يقاسم القرار غيره أبداً.
ومن عظمة الرجل أنه بعد عام من شهادته، لا يزال خصومه يشتمونه، لأنه يصحح التاريخ بدمه، فلم يزد موته خصومه إلا فشلاً، بدون أكذوبة يعلقون بها الفشل عليه.
فالحقيقة الماثلة أنه في ديسمبر 2017 صمتت كل الجبهات وتوقفت كل الحروب، منتظرة جبهة صنعاء، فإن انتصرت ستبدأ الحرب ضد "صالح" الذي يريد العودة للحكم.
قال محمد بن ناجي الشايف للرئيس هادي: لا تخذلوا صالح. فقال هادي: "مالنا في معارك صنعاء".
وقال قادة الجيش الوطني للسعودية: "مافيش معنا سلاح كفاية نتدخل".
وكانت الإمارات واثقة من وهم عنوانه "الحرس الجمهوري ضارباً في صنعاء وهو الحاكم الفعلي".
وبعد انهيار الحوثي.. بقيت الدولة يوماً بدون قيادة، فصالح لم يكن مخططاً العودة لها.. لذا دعا اليمنيين إلى دولتهم، ودعا قيادات هزيلة كانت ترتعد فرائصها في الأباعد.. فانتبه الحوثي للحكاية واستجمع أنفاسه وعاد مبتدئاً باليمن اليوم..
صبيحة الرابع من ديسمبر قرّر صالح الانتقال إلى حصنه في سنحان، لكن الأحداث تداعت بقدرية نهاية الجمهورية اليمنية، وانتصر اللصوص الذين بدأت حربهم في صنعاء على معارك صغيرة، اللجان الشعبية تصارع على ميزانية وزارة الداخلية، والأمن القومي يصارع على الشركة الأمنية، ومحمد علي الحوثي يدور مخازن “عطان”.. وبقية الهلافيت لصوص يأملون الحصول على غنائم من الستين مليار التي كذبوا معاً عنها. ثم قلق من تصاعد تواصلات طارق ومحمد مع قيادات سابقة للجيش..
كل ذلك جمع “اللصوص القتلة” في مشروع واحد.. تجمعت لحظتهم في محيط الثنية وشارع الجزائر.
يوماً قال عارف الزوكا لصالح الصماد: اليوم أو غداً ستسلم نفسك لأقرب قسم شرطة.. أو لأول رصاصة، فلاحقوا عارف الزوكا حقداً، وضربوه ببازوكا هشمت رجله.. ثم نقلوه حياً إلى المستشفى، وهناك قتلوه. ولم يطل عمر الصماد كثيراً، ورآه العالم بكله يجري مثل الجرذ مع حراسه قبل أن تشرب دمهم أرض تهامة التي ساعدناه في التمكن منها، للأسف الشديد..
يريد الناس إجابات ماذا حدث وكيف.. وفي الحقيقة أن الانشغال بالتفاصيل هذه الآن، هو مواصلة للخذلان.. يريد الناس أن يختموا سيرتهم مع صالح الذي اعتادوا على رؤيته وسماعه.. يريدون أن نروي لهم اللحظات الأخيرة في حياته، وهذا خذلان مسيئ.. فالمعركة لا تزال ممتدة. ولا تزال واجباتنا أن نعيد اليمن لليمنيين.
تكفيراً عن خطأ تقديرنا في أن نبقي اليمن محشورة بيد الحوثي الذي يتمكن من عاصمتها، فيما نحشد الناس نحن في صف يتحدث عن العدوان السعودي ونحن نرى أن الحوثي يرفض منّا أقل ما يمكن قبوله من أى شريك..
لنا الحرب.. التي انتقل غالب رجال ديسمبر إلى ميدانها اليوم في الحديدة..
ولنترك المراهنين على “سلام” قد جربناه مع الحوثي، مدركين أن كل ما تريده الأمم المتحدة اليوم هو إخراج الميناء من بين ألغام الحوثي المنهار، الذي لم يعد قادراً حتى على معالجة جرحاه.
وفي يوم استشهاد صالح نقول للمتحدثين بتبشيرية عن السلام وعن أوجاع اليمنيين وكل ذلك الكلام المعسول.. وبلغة علي عبدالله صالح نقول لهم: "ها.. وهو مو ما كان يزرع بصل".. لماذا، إذاً، أدنتموه ولم تؤيدوا تحالفه مع الحوثي كطريق نحو السلام.
أما الحوثي فقد كان صادقاً مع أمراضه، وكلما حاول "صالح" معالجة صورتهم منه ثبتوه وقالوا: ليس اليمن إلا الولاية وكل من يرفضها فدمه مهدور..