في كتابه الذي ترجمته "عالم المعرفة" في الكويت إلى العربية في يناير 2015، بعنوان "انتقام الجغرافيا - ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة، وعن الحرب ضد المصير؟"، حذّر الكاتب الأميركي "روبرت د. كابلان" السعودية من خطر الجغرافيا في شمال اليمن على أمنها واستقرارها، ناصحاً في ثنايا كتابه بفتح المزيد من قنوات التواصل للاستعانة بأهل الخبرة والدراية من أهل الأرض لمحاربة أعدائهم؛ لأنّ الركون على الطيران وحده والأسلحة الحديثة قد تفيد في المحافظات السهلية والساحلية، لكنها غير مُجدية في المناطق الجبلية في شمال الشمال.
ومن المهم في ذلك الكتاب معرفة "أنّ الخطر الأساسي على المملكة العربية السعودية المرتكزة على نجد، هو اليمن؛ فعلى الرغم من أنّ اليمن لا تمتلك سوى ربع مساحة أراضي المملكة العربية السعودية، فإن سكانها يبلغون الحجم نفسه تقريباً؛ بحيث يقع القلب الديموغرافي البالغ الأهمية لشبه الجزيرة العربية في الركن الجنوبي الغربي الجبلي ذي الكثافة السكانية العالية، وهو المنطقة التي تكون المملكة العربية السعودية فيها غير حصينة بالفعل؛ فمن هنا تتدفق الأسلحة، والمتفجرات، والمخدرات، وأوراق القات عبر الحدود اليمنية. إنّ مستقبل اليمن المزدحم بسكانه وذي الطبيعة القبلية سيمارس دوراً كبيراً في تحديد مستقبل المملكة العربية السعودية، وربما كان ذلك متعلقاً بالجغرافيا، أكثر مما يتعلق بالأفكار".
ويخلص روبرت د. كابلان لترجيح كفة إيران جيوسياسياً وديموغرافياً، في حال استمرار صراعها مع السعودية دون أفق واضح وعجز الأخيرة عن التعاطي مع تعقيدات اليمن بشكل حاسم.
وبعيداً عن تنظيرات الكاتب، رغم أهميتها، فقد كان أمراً مهماً وحيوياً أن تستشعر القيادة السعودية خطر ذراعي إيران، في الشام "حزب الله"، واليمن "أنصار الله"؛ مدفوعة بهواجس إعادة رسم خرائط المنطقة لصالح حكم الطوائف والإثنيات، وما قد يسببه ذلك من تشظٍ للمنطقة، بما فيها المملكة، ولذلك اتخذت قرارها الشجاع بإعلان الحرب على الحوثيين قبل أكثر من أربع سنوات، بعدما سيطرت إيران بمذهبها وأحلافها على الدول المتاخمة لحدود السعودية الشمالية، وتغلغل الحوثيون في أحشاء عمقها الجنوبي، وحاولوا استفزاز وتحفيز إسماعيلية "نجران" جنوب المملكة، وهي بمساحة شاسعة تزيد على مساحة اليمن الجنوبي قبل عام 1990، وبأقلية سكانية متباعدة، تربو قليلاً على النصف مليون نسمة -أي أقل من سكان "صعدة" اليمنية- غالبهم إسماعيليون "مكارمة" -يُنظر لهم من أتباع الجماعات السلفية بتعالٍ واحتقار؛ لما يشاع عنهم من مبالغات تزعم عبوديتهم لإمامهم، وطقوس "الغدير" الممزوجة بمشاعية النساء ونكاح المتعة وغيرها.
كما توجد أقلية زيدية في المدينة المنورة وجيزان وعسير، ولكن لا نسمع لها همساً.. والأدهى الطائفة الاثني عشرية المدعومة من إيران، في المنطقة الشرقية، حيث 80% من ثروة السعودية النفطية، والتي كانت قد استفادت كثيراً من "تساهل"حكم الملك عبد الله وتغاضيه في أعوامه الأخيرة عن رحلات منتظمة لهم إلى لبنان وإيران والعراق، الأمر الذي أثار الحركة الدينية السنية المعروفة باسم "الوهابية" وجعلها تغمغم بالاعتراض.
ولهذا لم يكن مفاجئاً أن يُدشّن الملك سلمان عهده بإعلان تحالف عاصفة الحزم؛ لقطع ذراع إيران في اليمن، قبل أن تمتد لتطال المملكة، مستخدماً أسلحة نوعية وضخمة الأثر؛ فالمملكة تُعد الدولة الثالثة في العالم بعد أميركا والصين في الإنفاق العسكري، وتنفق سنوياً 10% من ناتجها العام على الدفاع، ويخدم لديها 400.000 جندي موزعين على الجيش والحرس الوطني والبحرية والجوية.
غير أنّ هذه الإمكانيات الدفاعية الضخمة للسعودية، إضافة لاقتصادها القوي -تملك 22% من احتياطي النفط العالمي وتحتل المرتبة الثالثة في التصدير- لم تستغن بها عن الاحتياج لدعم الولايات المتحدة للقيام بما تريد، بسبب الضغوطات الغربية التي تمارس لإنهاء الحرب دون تحقيق أهدافها.
كما أنّ هناك لوبياً مؤثراً من أسرة وأعوان بيت حميد الدين، منحتهم السعودية جنسيتها بعد المصالحة في السبعينيات، يُهونون كذباً من خطر الحوثيين عليها وأنّ بإمكانها التوصل إلى تسوية معهم، مثلهم مثل أئمة الزيدية السابقين.. وهذه الرؤية فيها مغالطة واضحة؛ لأنّ جرثومة الحوثيين تستهدف المملكة.. واليمن عندهم ليست أكثر من ذخيرة ومدد للتوغل باتجاه الحجاز.
وعليه فإن قبول المملكة لأي تسوية مع الحوثيين سيعود ضررها عليها أكثر من غيرها، لاسيما بعد تهاونها بتنفيذ وعودها المتكررة مع إعلان عاصفة الحزم بإنقاذ اليمنيين من خطرهم. ومن حسن الحظ أنّ غالبية أبناء تلك المناطق الجبلية قد ضاقوا ذرعاً بالحوثيين وينتظرون ساعة الصفر للانتقام منهم، والقضاء عليهم. وكما قال كابلان: "في وسع مجموعات صغيرة من الجنود غير النظاميين، استخدام الطرق المتعرجة لمنطقة جبلية معقدة؛ لإرباك قوة عظمى" وفي هذه الحالة يتبدى دور الجغرافيا في تحقيق الانتصار.. وليس أقدر من اليمنيين على فهم طبيعة أرضهم..