بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، صعدت الطائفية بقوة إلى حقل الاستعمال العام باعتبارها كلمة الشؤم التي تشير إلى نمط بغيض من الصراعات السياسية والاجتماعية العنيفة التي تفشت في بعض البلدان العربية كالطاعون.
فالطائفية كموضوع للدراسة، نالت في العقدين الأخيرين من الاهتمام ما لم تنله في أي وقت مضى. ومثلما أطلق مفهوم الصراع الطبقي الماركسي موجة من الدراسات والبحوث التاريخية التي لم يكتف أصحابها بتفسير الحاضر من منظور الصراع الطبقي بل ذهبوا إلى أقاصي الماضي لإعادة كتابته وتأويله بما يثبت أن التناقض بين الطبقات هو القوة المحركة للتاريخ، فإن الطائفية استحثت جهوداً معرفية مشابهة راحت تنقب في التاريخ عن المواد التي تحتاجها لبناء روايات وذكريات طائفية ذات مفعول انقسامي.
وكأي ظاهرة اجتماعية، فالطائفية متطورة ومتغيرة في الزمان والمكان. الوظيفة الدلالية لكلمتي "طائفية" و"طوائف" قبل مئة عام قد تختلف عنها في هذه الحقبة. حتى إن "الطائفية" اليوم محاطة بالغموض أو أنها كفت عن أن تشير إلى ما كانت تشير إليه أو ما ينبغي أن تشير إليه في الماضي. فهي دائمة الانفصال عن معناها في حمى السجالات وحروب الدعاية التي تتخلل الصراعات الراهنة المصبوغة بصبغة طائفية. فتجد الطائفيين أنفسهم يتراشقون الاتهام بالطائفية، وكل منهم لا يرى في سلوكه ومنطقه ومصدر تحيزاته أي ذرة من الطائفية التي يذمها ويمقتها في غيره.
وقد نقول للمزيد من التوضيح، بأن الفرق بين الطائفة والطائفية كالفرق بين المنطقة والمناطقية، والقبيلة والقبائلية، والمذهب والمذهبية، معظم المجتمعات في العالم تضم طوائف ومناطق ومذاهب وأعراقاً.
متى تتحول هذه العناصر التكوينية لمجتمع من المجتمعات إلى مشكلات خطرة وهدامة؟
- في اللحظة التي يصبح فيه الانتماء إلى طائفة أو منطقة إطاراً لممارسة السياسة إما من موقع السلطة أو حتى من موقع المعارضة.
أن يكون الانتماء إلى مذهب داخل ديانة واحدة، هو الأساس الذي تبني عليه نشاطاً سياسياً، بشكل ضمني أو بشكل صريح، فهذه هي المذهبية. الأمر نفسه بالنسبة للطائفية والمناطقية.
ويقال عن نظام حكم بأنه طائفي إذا كانت تركيبته تقوم على التمثيل بحسب أوزان الطوائف وإذا كانت الحقوق السياسية تمنح/ تمنع فيه استناداً إلى المعتقد الديني وليس استناداً إلى مبدأ المواطنة. والنظام السياسي الطائفي هو الذي يتألف من الأطر والروابط الاجتماعية والتكافلات المبنية على الدين وقد استحالت إلى أطر وروابط وتضامنات سياسية بديلاً عن أدوات وأشكال التنظيم العقلاني للمجتمع والأنماط الحديثة للمشاركة السياسية.
في بعض الأحيان يقال عن نظام سياسي بأنه طائفي إذا كان يتضمن صيغة من صيغ تقاسم السلطة بين ممثلي وزعماء الطوائف الدينية التي يجري التعامل معها كأجسام سياسية مغلقة. وهنا لا مكان للمواطن الفرد كفاعل ومشارك في السياسة بصفته الشخصية بل هو عنصر مذاب في جماعة ثقافية متخيلة.
معارضة سياسية طائفية: هي التي تنزع إلى تعريف مطالبها ومصالحها وتظلماتها من منظور طائفي وتؤسس فعلها في المجال العام على قاعدة الانتماء الديني وليس على أساس عقلاني، وطني مثلاً.
من المفترض أن الطائفية -كخطاب وكأسلوب لممارسة السلطة- تلحق العار بصاحبها من وجهة نظر الحساسيات الجديدة التي تعود جذورها إلى ما يسمى عصر الأنوار في الغرب الأوروبي.. لكن إذا كانت الطائفية مسبة وعاراً كقاعدة وأداة لممارسة السلطة فلماذا لا تكون مسبة وعاراً كقاعدة وأداة لممارسة المعارضة والتعبير عن التظلمات والطموحات؟
فالطائفية بأي مقياس هي سيئة؟ إن يكن بالمقياس الوطني، فلا يمكن أن تكون سيئة فقط كحافز للفعل من موقع السلطة، بل يجب كذلك أن تكون سيئة ومعيبة كمرجعية للامتناع عن الفعل أو لإتيان الفعل الخطأ أو كمرجعية للاعتراض والتظلم والثورة.
وكونك علمانياً أو حتى ملحداً، لا يعني بالضرورة أنك في منعة وفي حصن حصين من الوقوع في شبهة الطائفية. لا شيء أسهل من أن تكون علمانياً وطائفياً في نفس الوقت. فالإفصاح الحقيقي للطائفية لا يكون إلا في حقل السياسة أكثر مما هو في حقل الدين.