مصطفى النعمان

مصطفى النعمان

تابعنى على

عن البنك المركزي اليمني وتقرير لجنة الخبراء

Wednesday 03 February 2021 الساعة 04:31 pm

في 19 سبتمبر (أيلول) 2016 أثناء وجوده في نيويورك، قرر الرئيس عبد ربه منصور هادي نقل أعمال البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، ورفض محافظ البنك حينها الأستاذ محمد بن همام الانتقال إلى عدن، محذراً من مخاطر الأمر وتأثيراته المالية والاقتصادية وانعكاساتها على مجتمع يعيش معظمه على الراتب والإعانات الاجتماعية.

وكان الغرض المعلن حينها "إلغاء دور البنك المركزي في العاصمة صنعاء الواقعة تحت سلطة الحوثيين، وتالياً توقع حدوث انتفاضة ضدهم بسبب عدم قدرتهم على دفع الرواتب، وأن السلطة في صنعاء طبعت أكثر من 400 مليار ريال من دون غطاء نقدي"، وكان سعر الدولار حينها 315 ريالاً يمنياً.

قبل إصدار القرار بيومين (17 سبتمبر 2016)، كتبت مقالة في صحيفة "عكاظ" عن الصراع حول البنك المركزي، وقلت إنه لا أحد يمكنه التشكيك في نزاهة وإمكانات محافظه محمد بن همام، وأنه "من الممكن تفهم موقف المطالبين بانتقال البنك، لو أن الذين يسعون إليه بطريقة مثيرة للريبة في مقاصدها عادوا إلى الداخل لممارسة أعمالهم وإثبات القدرة على خلق نموذج يبعث على الأمل في مستقبل أقل قسوة، ولكنهم في واقع الحال منشغلون بقضايا هي أبعد ما تكون عن هموم المواطنين". 

وبالفعل، تم نقل عمليات البنك نظرياً إلى عدن وتعيين محافظ ونائب جديدين بمرتبات هي من بين الأعلى مقارنة مع نظرائهما في العالم، واستمرا يديران أعمالهما من الرياض.

كان واضحاً أن قرار النقل سياسي خالص، ولم تتم دراسة تبعاته على الناس، كما لم تتم التهيئة له إدارياً ومالياً لأن الذين أصروا عليه كانوا يعيشون خارج البلاد بمرتبات مضمونة ومنتظمة ومغرية، ولم يكونوا على دراية ولا خبرة ولا تجربة كافية بتعقيدات الأعمال المصرفية.

وهكذا، وبمرور الوقت، اتضح أن رؤية بن همام وموقفه كانا نابعين من شعور بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية، وحرصاً على السلم الاجتماعي الذي لم يكن يشغل بال وضمير من أقنعوا الرئيس بنقل عمليات البنك إلى المجهول.

خلال السنوات الأربع التي تلت نقل العمليات إلى عدن، قامت الحكومة بطباعة أكثر من تريليوني ريال، وهي كتلة نقدية أكبر من كل ما قامت به حكومات الجمهورية في 40 عاماً، وانهار سعر الريال حتى بلغ 900 مقابل الدولار، وتوقفت الدولة عن دفع مرتبات موظفيها في المناطق خارج سيطرتها، كما لو كانت تعاقبهم لعدم فرارهم معها، وتفاقمت أوجاع الناس، وزاد فقرهم من دون أن تقدم الحكومات المقيمة في الخارج أي حلول للتخفيف من معاناة المواطنين، واكتفت بتأمين مرتبات من يقيمون في الخارج بالعملة الصعبة، بينما ارتفعت روائح الفساد في مؤسساتها من دون رقيب ولا محاسب.

قبل أيام، أصدرت لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة واحداً من تقاريرها المتعددة حول الأوضاع في اليمن، وفي واقع الأمر، لم يكن في ما قرأت ما يبعث على الدهشة عند العارفين بالشأن اليمني، ولكنه ركز على دور البنك المركزي في عدن، وما يقوم به من عمليات مالية وصفها بـ"الفساد وغسل الأموال"، وهو ما يضع إدارته في موقع المشتبه بتعمدها مزيداً من تشويه ما تبقى من سمعة البنوك اليمنية والمجموعات التجارية، ولكنه في المقدمة يجعل الرئيس والنائب العام أمام اختبار لجديتهما في مواجهة الفساد، خصوصاً أن الأوضاع المالية الاقتصادية والمالية التي يمر بها العالم مناقضة لمزاعم الحكومة بأن 2021 هو "عام التعافي"، وهذا، بطبيعة الحال، يتطلب محاربة جادة للفساد ومعاقبة كل من عبث بالمال العام في كل مستويات الحكم.

وعلى الرغم من كل البيانات الصادمة التي جاء بها التقرير، فإنه أغفل أموراً جوهرية عدة، في مسلسل الفساد، أولها، الحديث عن الكشوف الوهمية في أسماء ضباط وجنود القوات المسلحة التي تستنزف مبالغ فلكية من إيرادات الدولة تذهب إلى المجهول، وثانيها، البحث في مصير المبالغ التي تمت طباعتها منذ 2016، وحتى اليوم، وكيف تمت إجراءاتها، وكم حجم العمولات التي تلقفها من أمر ومن أشرف ومن تابع ومن تسلم؟

 وثالثها، العقود التي جرت مع مقاولين لتزويد المدن بالكهرباء بصورة مؤقتة، وكم حجم الإنفاق عليها، ومن الذي تحصلها؟

ورابعها، ضرورة الكشف عن التعيينات التي جرت ومبرراتها وقانونيتها وسبب عدم نشرها في الجريدة الرسمية بحسب مقتضيات الدستور، وخامسها، عدم التوصل إلى تحديد دقيق لإيرادات المنافذ التي تستفيد منها قلة لحسابها الخاص وما تنتجه مأرب وشبوة وحضرموت من نفط وغاز.

ولخص التقرير عدداً من القضايا التي تعرقل عودة الحياة الطبيعية إلى البلاد، ومنها:

1 - الأمن البشري تأثر بالتربح الاقتصادي من كل الأطراف.

2 - استمرار الانتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي على نطاق واسع.

3 - تأثير تصاعد القتال وتأثيره على المدنيين وتسببه في تزايد النازحين من مناطق الصراع.

4 - الغموض الذي يحيط بالعلاقة بين الجماعات المسلحة والحكومة الشرعية.

5 - الحوثيون يجمعون ضرائب وإيرادات بلغت ملياراً و800 مليون دولار أنفق معظمها على العمليات العسكرية.

6 - الحكومة الشرعية تنخرط في عمليات فساد وغسل أموال.

7 – كل الأطراف ارتكبت انتهاكات صارخة للقانون الدولي والإنساني.

8 - الألغام البرية التي زرعها الحوثيون تهدد المدنيين وتسهم في نزوحهم وأنهم مستمرون في تجنيد الأطفال.

وأثار التقرير ضجة إيجابية أثبتت أن الرأي العام حريص على التأكد من المعلومات المنتشرة وملاحقة مزاعم الفساد التي يتم تداولها يومياً في وسائل التواصل الاجتماعي، وجاءت بياناته للتركيز عليها وتفصيلها، سواء كانت منسوبة للحكومة أو للقطاع الخاص، وهي وقائع يمكن للمتضررين دحضها من دون حاجة إلى استدعاء المفردات المملة، لأن لجنة الخبراء أكدت في تقريرها أنها منحت كل من تمت الإشارة إليهم فرصة الرد مسبقاً، والتواصل معها.

 ومن هنا، يجب على النائب العام القيام بمهامه الدستورية في اعتبار تقرير لجنة الخبراء بلاغاً مكتمل الأركان، وأن يقوم بإبلاغ الناس خلال شهر واحد عما توصل إليه، وما عدا ذلك، يصبح تواطئاً من مكتب الرئاسة ووزير العدل والنائب العام.

ستظل قيم الفساد والمحسوبية والمحاباة مؤشرات فشل أي نظام سياسي وتحوله إلى "كليبتوكراسي" تنفرد بالتحكم في مفاصل السلطة، وتصير تعبيراً عن العجز في خلق نموذج صالح للاستمرار يعيش في ظله المواطن حياة كريمة آمنة.


* نقلا عن اندبندنت عربية