الرفيق بيشوني، رواية قصيرة ترجمت إلى العربية في أوائل سبعينات القرن العشرين تقريباً، وكاتبها أديب تركي لا أتذكر اسمه، سخر من الجماعات اليسارية التي تحاكي أحزاباً شيوعية في بلدان صناعية.. الرفيق بيشوني هو بطل الرواية التي وقعت أحداثها عام 1909 في منطقة تركية.. هذا الزعيم المتشدق بالاشتراكية أسس جماعة ثورية، واختار لها قيادات وأعضاء من ذوي العاهات وأهل السوابق -كما في الرواية- وكان يتنقل من قرية إلى أخرى يخطب في الأميين والفقراء ويحرضهم ضد الرأسماليين والامبريالية، وكون مرة حكومة البروليتارية في إحدى القرى، وفي هذه الحكومة أصبح سارق الدجاج مسؤولا عن الأمن، والأمي وزيرا للتعليم، والمطلقة المضطربة نفسيا كلفت برعاية الأمومة والطفولة.. اشتد عود الحركة وعبثها فضجت القرية بها، ودخل أهلها مع الرفيق ورجاله في حرب، أدت إلى خراب وحرائق.. خرج الرفيق بيشوني منها بعد خرابها، وكتب وهو في طريقه رسالة إلى الرفيق البعيد يخبره أنه يسير الآن إلى قرية أخرى ليقيم فيها مجتمعا اشتراكيا، لأن البروليتارية في القرية الأولى -التي خربها- لم تكن نضيجة كفاية لفهم الاشتراكية، والحذر من المؤامرة الإمبريالية!
علق في ذاكرتي الرديئة شيء من رواية الرفيق بيشوني، بينما لم يعد في ذاكرتي شيء من الأحداث التي تضمنتها روايات جادة لأدباء عالميين قرأتها في نهاية سبعينيات القرن العشرين وأوائل ثمانيناته، مثل رواية الأم للأديب الروسي مكسيم جوركي التي قرأتها مرتين، ورواية ليس لدى الكولونيل من يكاتبه للأديب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، ومنذ منتصف ذلك العقد أقلعت عن قراءة الأدب المترجم إلى العربية، وفي مكتبة بيتنا دواوين شعر لأدباء يساريين مثل الشيلي بابلونيرودا، والتركي ناظم حكمت، لم أفهم منها أي شيء، إذ يبدو أن ترجمة الأشعار إلى العربية تفقدها روحها، كترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية، بينما المعنى يكون مطابقا لمراد كاتب الدراسة أو المقال أو الرسالة.. وأقدم ما قرأت من الرسائل المترجمة وما زلت أتذكر مواضيعها، رسائل الألمانية روزا لوكسمبورج التي كانت توجهها للزعيم الشيوعي فلاديمير لينين، وكانت تبدأ معظمها بجملة حماري العزيز!
علقت بقايا رواية الرفيق بيشوني ببقايا ذاكرتي، ربما لأن تجربة اشتراكية كانت قيد العمل هنا في اليمن، شابها عور أو قصور، فقد ناطحوا الدنيا، وحسبوا التاجر في زمرة مستغلي الكادحين، وزادوا أمموا ممتلكات خاصة صغيرة مثل بيت من شقتين وتركوها تخرب.. على أننا لسنا هنا بصدد إدانة تلك التجربة، بل من باب الذكر، فيحسب لليمنيين أنهم حاولوا تطبيق التجربة الاشتراكية الوحيدة في الوطن العربي، ولو راعوا الفارق بين المجتمع الزراعي والصناعي، لكانت ما تزال قائمة، خاصة وأنها اقترنت بالعدالة والمساواة والأمن ونشر التعليم، ومحو الأمية وتعليم الكبار، ففي ذلك الوقت كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الدولة العربية الأولى من حيث نسبة الالتحاق بالتعليم وتدني الأمية.
نعود إلى ما بدأنا به، ونقول: في صنعاء، كان الرفاق في سبعينات القرن العشرين يعنون بكتيبات لينين، مع ميل قليل جهة كتب وكتيبات ومنشورات اليسار العربي التي يحصلون عليها من عدن مجانا، ولا يقرؤونها، وفي الثمانينيات زودنا أحدهم بخمسة كتب تحتوي مجموعات قصص الأديب المغدور به محمد أحمد عبد الولي: يموتون غرباء، شيء اسمه الحنين، صنعاء مدينة مفتوحة، الأرض يا سلمي، وعمنا صالح.. قرأناها، واستمعنا إلى صنعاء مدينة مفتوحة من إذاعة عدن. كنا نعرف عن عبد الولي بعض المعلومات، من أستاذنا في المدرسة، وهو من الأعبوس التي ينحدر منها الأديب الضخم.. حدثنا عن حياته في الحبشة، وعن عبقريته.. إن الذي كتب تلك التأليف في الأدب الرفيع قبل بلوغ العام الثلاثين، هو عبقري حقا، وماذا لو امتد به العمر؟ لكن شاء قدره التعيس الركوب مع الدبلوماسيين المغضوب عليهم، على تلك الطائرة التي قيل لهم ستذهب بهم في نزهة بعد ثلاثة أيام من عناء التصفيق المستمر في مؤتمر الدبلوماسيين الذي عقد بعدن، لكن الطائرة فجرت عنوة وهي في سماء شبوة نهاية شهر أبريل 1973، فكان أديبنا الفذ من جملة الضحايا، وقد قيل إنه لم يكن مقصودا، لكنهم لم يحجزوه عن ركوب الطائرة، كي لا تثار شبهة لدى السفراء، فيا له من تبرير!
أما الرفيق العتيق الهزلي فقد خصنا برواية عرس الزين.. هذه للأديب الطيب صالح الذي يعد عبقري الرواية العربية، وهو صاحب رواية موسم الهجرة الى الشمال، المشهورة.
قرأنا الرواية، ثم شاهدنا أحداثها بعد ذلك في مسلسل تلفزيوني لبناني أو تمثيلية، لا نتذكر بالضبط أيهما.. كما لم نعد نتذكر تفاصيل ما قرأنا باستثناء الحبكات اللذيذة.. ميدان الرواية بلدة في ريفية في السودان، ويخيل لنا كأنها رواية تصور حالة المهمشين عندنا.. بطل الرواية يدعى الزين.. شاب هزيل، يتيم، لا مهنة له لأنه لم يتعلم، مهرج، عبث، ضحوك، وفيه تغفيل.. وأيضا متطفل مثل جحا العربي، كلما سمع وليمة أسرع إليها دون دعوة.. كان يتحبب إلى بنات القرية، فيستجبن له من باب العبث بمشاعره ليس غير.. استغل الجيران ميله لبناتهم لاستخدامه في الخدمة ببيوتهم وأراضيهم دون أجر.. كان كلما طلب الزواج من فتاة جاء آخر يخطبها، وهنا رأت الأمهات أن عبثه مع بناتهن عاثرات الحظوظ يجلب لهن الأزواج، ويشأ حظه أن تذهب إليه فتاة تطلب الزواج به على الرغم أنها رفضت كثيرين أفضل منه.. وفي المسلسل التلفزيوني أو التمثيلية ظهر تعديل واضح، لجهة أن الزين كان كلما تقدم لخطبة بنت من بنات القرية، جاء إليها من هو أحسن وتزوجها، فكانت العانسات يذهبن تباعا للتبرك به، يأتين لخطبته، ليس بقصد الزواج منه بل لكي يأتي إليهن من هم أفضل من الزين.