نشطت التحركات الدبلوماسية، الأميركية على وجه الخصوص، لوضع حد للحرب الدائرة في اليمن منذ 73 شهراً.
فقد أدت الكلفة الهائلة المتصاعدة إنسانياً ومالياً، والتأثيرات الاقتصادية والسياسية السلبية، التي تزامنت مع انتشار وباء كورونا، إلى الدفع بالأزمة اليمنية إلى واجهة الأحداث الدولية.
وتأخرت كل الأطراف في إدراك أن الانتصار العسكري ليس خياراً ممكناً أو حتى محتملاً.
على العكس من ذلك، فإن استمرارها سيضاعف الأعباء السياسية والإنسانية، ويجعل الحرب ملفاً مفتوحاً للاستنزاف والتعرض للابتزاز والضغوط الخارجية.
بعد انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب صارت اليمن شأناً يومياً يحتل صدارة ملفات السياسة الخارجية في البيت الأبيض.
يجب أن يكون مفهوماً وواضحاً أن الأمر ليس اهتماماً شخصياً من الرئيس جو بايدن وإدارته الجديدة فحسب، ولكنه مرتبط بالضغط الذي تمارسه مجموعة "التقدميين" في مجلسي الكونغرس وعلى رأسهم السناتور بيرني ساندرز.
هذه المجموعة "اليسارية" (بالمعايير الأميركية) لها مواقف معلنة ومستمرة تجاه مجمل السياسات السعودية، وأتاح لها الملف اليمني مساحة واسعة لتوجيه الانتقادات والاتهامات، وهو أمر مرتبط أيضاً بالعلاقة الاستثنائية بين الرياض وواشنطن في عهد الرئيس ترمب.
تدرك الحكومة السعودية أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تتراجع عن مساعيها لتنفيذ وعد انتخابي بوقف الحرب في اليمن ضمن ملفات كثيرة يصر الرئيس بايدن على تحقيقها، وهذا أمر تزامن مع رغبة متصاعدة في الرياض في الاتجاه نفسه، وهي قادرة على التعامل معها بحنكة ودبلوماسية.
وأخيراً تنامت قناعة الرياض بضرورة إغلاق هذا الملف المكلف والدامي بسرعة، لمنحها فسحة للتركيز على القضايا الداخلية التنموية.
في 22 مارس (آذار) الماضي، أعلن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عن مبادرة لإنهاء الحرب، وكان من ضمن بنودها مطالب تم الاتفاق عليها سابقاً في ستوكهولم، نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2018، مثل رفع الحصار عن ميناء الحديدة وإعادة العمل في مطار صنعاء مع إجراءات لضمان عدم استخدامهما لغير الأغراض الإنسانية والتجارية.
وهذان المطلبان كانا من ضمن شروط وضعتها جماعة الحوثيين للدخول في أي مفاوضات منتظرة.
لم يكن مفاجئاً تردد الحوثيين في التجاوب مع كل المبادرات السابقة، فقد ظل تعاملهم مشوبا بحذر شديد وشك في النيات وعدم إتاحة الفرصة لبناء الثقة كي تأخذ مسارها الطبيعي.
كما أن عجز ممثلي السلطة الشرعية واقتراب الحوثيين من تخوم مركز مدينة مأرب عززا من يقينهم بأن تحقيق الانتصار العسكري الحاسم ممكن، وإذا ما تم لهم ذلك فسيمنحهم ورقة تفاوضية هي الأقوى منذ سيطرتهم على صنعاء في 2014، وسيرفدهم بإيرادات مالية تخفف ما يتعرضون له من شح في الموارد وسيجعلهم أقرب إلى مصادر النفط في المحافظات المجاورة.
لكن ما غاب عن ذهن قيادة الحوثيين هو أن أعداد الضحايا اليمنيين الذين قتلوا أو أصيبوا أو شردوا، وهم بالآلاف وهؤلاء سيكونون وقود حروب مقبلة متتالية عنوانها الثأرات والأحقاد.
لم تنقطع زيارات المبعوث الأميركي تيموثي ليندركينغ إلى الرياض ومسقط، ولم تتوقف الرسائل المفتوحة والسرية من طهران وإليها.
وفي السياسة لا يمكن فصل المسارات بين القضايا الدولية والإقليمية ويتسبب التفكير الأحادي الاتجاه في الابتعاد عن الواقعية ويؤدي إلى ضبابية المشهد وعدم القدرة على الرؤية واتخاذ القرار المناسب.
من هنا، جاء توقيت إعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في التصريح عن رغبته في التخلص من هذا الملف المزعج الثقيل، والدفع قدماً بالعملية السياسية لإنهاء الحرب التي شغلت الرياض والمنطقة لسنوات عن قضاياها الملحة الداخلية والإقليمية.
وكانت رسالة الأمير محمد بن سلمان هي الأوضح تجاه جماعة الحوثيين حين قال، إنهم مكون أساسي في أي عملية سياسية مقبلة مع التذكير بأن هذا مشروط بالتخلي عن تكويناتها المسلحة.
الرسائل التي خرجت من الرياض قبل أيام كانت صريحة وواضحة على لسان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولكنها في المقابل أثارت قلقاً عند خصوم جماعة الحوثيين الذين يرون أن التعايش معها غير ممكن، وأن الطريق الوحيد لحل المشكلة هو استئصالها.
الرسائل كانت موجهة مباشرة إلى زعيم جماعة الحوثيين بأن علاقته بإيران لا تنفي يمنيته وعروبته، حين قال الأمير محمد بن سلمان "لا شك في أن لديه علاقة قوية بالنظام الإيراني، لكن الحوثي في الأخير يمني ولديه نزعته العروبية واليمنية التي أتمنى أن تحيا فيه بشكل أكبر ويراعي مصالحه ومصالح وطنه قبل أي شيء آخر".
وأضاف "نتمنى أن يجلس الحوثي إلى طاولة المفاوضات مع جميع الأقطاب اليمنية للوصول إلى حلول تكفل حقوق الجميع في اليمن وتضمن مصالح دول المنطقة".
تشكل هذه الرسائل تحولاً في الخطاب السياسي الرسمي الذي كان سائداً منذ بدايات الحرب وتجئ مكملة للمبادرة السعودية في مارس الماضي.
هذا يمكن أن يعطي دفعة قوية لمساعي إنهاء الحرب ورفع الحظر والحصار المفروضين منذ مارس 2015، لكن إسقاطه على الواقع سيحتاج إلى ما هو أكثر من النيات الطيبة.
هناك مسلمات في العلاقات اليمنية - السعودية، أشدها خطراً الأمن المشترك، وهي قضية حيوية لا يمكن التهاون فيها، كما لا يجوز أن تكون مجالاً للمساومة والابتزاز.
على العكس من ذلك، فإن التوافق الكامل والدائم على معاييرها ومحدداتها أمر يجب ألا يكون خاضعاً للمزاجية.
من هنا، فإن ما قاله الأمير محمد بن سلمان عن عدم القبول بوجود أي قوة عسكرية لا تتبع الدولة على الحدود أمر منطقي سياسياً وأمنياً.
هذا ما يتوجب على جماعة الحوثيين أن تقتنع به.
ولست هنا في معرض القول إن عليها تسليم ما بحوزتها من سلاح فوراً إلى المجهول، ولكنها مطالبة بالإعلان الصريح بأن الدولة هي وحدها من يحق له امتلاكه واستخدامه.
طبعاً، هذا أمر ينطبق على كل الميليشيات التي تكاثرت بعد الحرب في كل اليمن.
سيؤدي البقاء في وضع الاستنزاف اليومي إلى مزيد من الانهيارات، وسيكون لهذا تأثيرات جيوسياسية مخيفة لن تتوقف اهتزازاتها داخل حدود اليمن.
من هنا، فإني لم ولن أتوقف عن القول إن استمرار الحرب رغبة أكيدة لدى المستفيدين منها مادياً، وهي زاد الجماعات الإرهابية التي تجد في هذه الأوضاع مساحتها الحرة للتوغل والتحصن.
وهذا سيكون له انعكاسات سلبية جداً على كامل المنطقة وثرواتها.
يجب أن يعي الجميع أن أمن اليمن واستقراره وازدهاره استثمار مستقبلي مستدام للمملكة العربية السعودية، ومخطئ سياسياً وإنسانياً وأخلاقياً مَن يتوهم أن أحدهما يستطيع تأمين ذاته من دون الآخر.
*نقلا عن اندبندنت عربية