لا يزال العالم يبدي تعاطفه مع الشعب اليمني وحزنه على أوضاعه المأساوية ويجمع له المليارات لإنقاذه من الهرولة نحو الفناء.
غير أن الموقف الشعبي من قضية الحرب والسلام يثير الكثير من الأسئلة حول إمكانية التوصل إلى استقرار مستدام بعد سنوات الحرب التي بدأت عملياً في 21 سبتمبر (أيلول) 2014 حين قررت جماعة الحوثيين أن السلاح يمكنه أن يصبح حلاً لمشكلة الشراكة في حكم البلاد أو الاستئثار به.
منذ ذلك اليوم توالت الأحداث بسرعة مذهلة ثم اندلعت حرب شاملة، مستمرة حتى اليوم، منذ فجر 26 مارس (آذار) 2015 على امتداد الجغرافيا اليمنية اختلط فيها المحلي بالإقليمي والمناطقي بالمذهبي.
نتج عن الحرب الدائرة تفسخ وتهشيم نسيج وقواعد البنى الاجتماعية الهشة أصلاً، التي كانت تشكل المشهد الخارجي للأوضاع المحلية.
الأخطر أنها بعثت إلى السطح رواسب تاريخية من مشاعر عداء ونفور كان اليمنيون يظنون بأنهم تكيفوا مع جذورها المناطقية والمذهبية وتوهموا بأنهم تجاوزوا تناقضاتها وصاروا قادرين على التعايش معها.
لكن تجربة سنوات الحرب السبع، حتى الآن، دلت على أن الفترة الزمنية التي مرت منذ إنهاء حكم الأئمة في 26 سبتمبر 1962 لم تتمكن من إزالة جذر الأزمة اليمنية التاريخية: المواطنة المتساوية والعدالة.
تسيدت الخطاب الإعلامي لغة متطرفة وتكفيرية تصر على أن السلام المنشود غير ممكن إنجازه إلا باستئصال الآخر والقضاء عليه إما لكونه مرتزقاً كما يقول طرف، أو لكونه غير يمني كما يدعي آخر، وحالٌ كهذه يتقدم فيها نفي الآخر على كل مبدأ وطني لا يمكن أن تشكل مدخلاً ملائماً للحديث عن سلام مستقر ومستدام.
فليس منطقياً أن يكون الهدف الوحيد لطرف هو التخلص نهائياً من الطرف الذي يواجهه في ساحة القتال ثم القول بعد ذلك بأنه مستعد للدخول معه في تفاوض من دون شروط مسبقة أو بشروط مقيدة والقبول به شريكاً وطنياً.
في الوقت الراهن تقف المحاولات الدولية لجمع الأطراف اليمنية أمام عراقيل أصعبها انعدام الثقة واستحالة إعادة ترميمها وفق الشعارات البراقة الجميلة التي مزقتها الحرب أو القول إن الكل أبناء وطن واحد.
لقد مست الثأرات ومتوالية أعداد القتلى والأيتام والجرحى والدمار كل قرية يمنية وفي حالات كثيرة الأسرة الواحدة على امتداد البلاد.
هنا تصبح المساعي الخارجية عبثية ويصير نجاحها مجرد هدنة تتخللها استعدادات للحشد مجدداً ثم استئناف الحروب الداخلية.
من المهم عدم القفز إلى مفاوضات شاملة قبل فرض انفراج داخلي على الصعيد الإنساني وعودة الحياة الطبيعية تدريجاً داخل كل مدينة يمنية على أن يتزامن مع الالتزام بوقف شامل لإطلاق النار في كل اليمن.
عند حدوث ذلك تكون الدعوة إلى حوار يمني- يمني ممكنة بين الطرفين الرئيسيين ليضعا قواعد الحوار الوطني الأشمل.
في الوقت الراهن تمتلك ثلاثة مكونات شرعية دولية وداخلية ويعترف العالم بها أطرافاً ستوجد في أي حوار يلي وقف الحرب وإعادة النشاط والحركة في كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية مع وضعها تحت إدارة سلطة وطنية واحدة برقابة أممية.
الأطراف الثلاثة هي السلطة التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي والمجلس الانتقالي وجماعة الحوثيين.
بموجب اتفاق الرياض الذي تم التوقيع عليه في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 فإن ممثلي المجلس الانتقالي سينضمون إلى الوفد الذي سيشكله الرئيس هادي للمشاركة في مفاوضات السلام المرتقبة وسيكون الطرف المقابل هو الوفد الذي يمثل جماعة الحوثيين بصورة رئيسة ومن يختارهم معه من داخل اليمن.
في المرحلة الأولى لن تكون المشاركة متاحة لغير هذه الأطراف الثلاثة ولن تكون السيطرة بالقوة على أي مساحة جغرافية معياراً لأن ذلك سيفتح الباب واسعاً أمام مشاركة قوى كثيرة موجودة فوق مساحات متناثرة داخل البلاد.
في هذا السياق ستبقى المحاولات التي يبذلها المبعوث الأممي مارتن غريفيث ومعه المبعوث الأميركي تيموثي ليندركينغ في حلقة حلزونية تقترب ثم تبتعد من نقطة البدء لأنهما ينظران إلى القضية من زاوية لا علاقة لها بالواقع.
فعلى رغم أنهما قد أعلنا أن الأولوية هي لمعالجة القضية الإنسانية ثم الوقف الشامل للحرب لكن يغيب عنهما أن المتصارعين على الأرض لم يصلا إلى تفاهمات مشتركة حول تزامنهما أو تتابعهما.
الحوثي يريد اقتحام مأرب قبل أي حوار والرئيس هادي يريد أولاً تأمين المدينة وموقعه مستقبلاً ثم هناك الانتقالي الذي يريد ضمانات الانفصال مقدماً.
أضعفت الحرب قدرة الرئيس هادي وحكومته في ممارسة سلطاته في المناطق التي لا يوجد فيها الحوثيون وكان من نتيجة ذلك أن صارت الغلبة فيها لقوى مسلحة متناثرة لا تتبع الرئيس مما أفقده السيطرة على مجريات الأحداث وتحولاتها.
وفي الجنوب صورة فاضحة لهشاشة السلطة الشرعية وعجزها عن التوصل إلى تشكيل حشد منسجم معها في أهدافها ووسائل تحقيقها.
في المحافظات الجنوبية لا تبدو الأوضاع مريحة على كل الأصعدة بسبب عدم وفاء الحكومة بالتزاماتها الأخلاقية والوطنية وهو ما تسبب في حدوث فراغ هائل تمكن المجلس الانتقالي من استغلاله لملئه ولتثبيت نفوذه نسبياً ورفع شعاراته المطالبة بعودة الأوضاع بين الشمال والجنوب إلى ما كانت عليه في 21 مايو (أيار) 1990.
هذا الأمر لن يتحقق قبل التوصل إلى تسوية لوقف الحرب الكبرى ثم دخول اليمنيين في حوار تفاوضي حول الصيغة المقبلة للحكم والشراكة.
ما يجري بحثه من معادلات للتوصل إلى حصص متكافئة في الحكم يبدو عند الكثيرين مكافأة لأي فئة تستخدم العنف لتحقيق مبتغاها.
في الوقت نفسه فإن تجاوز الأمر غير ممكن إلا بسحق طرف للآخرين والفوز بكامل السلطة.
هذه هي العقدة الحقيقية التي ستظل تلقي بظلالها الكثيفة على سماء الحلول المتاحة.
وهنا يجب القول إن الدول الخمس الكبرى لم تعد مقتنعة بالنصوص الجامدة للمرجعيات الثلاث التي يتمسك بها الرئيس هادي، خصوصاً القرار 2216، وهي قضية يجري البحث فيها بجدية ويتم التشاور حولها داخل مجلس الأمن ومع دول الإقليم المؤثرة.
هذه الدول صارت تدرك بنسب متفاوتة أن الواقع الجديد الذي أنتجته الحرب يستدعي إعادة النظر في مجمل النصوص بما يسمح بالخروج السريع من المستنقع اليمني.
الغائب الأكبر في كل المساعي الدولية هو تجاهل "المحفزات" التي تقنع الأطراف الثلاثة بأن مصلحتها تقتضي الاعتراف بعجزها عن تحقيق أهدافها بالقوة، وأن الحوار فقط هو الذي سيمنحها جزءاً من طموحاتها، وحتماً ليست كلها.
* نقلا عن اندبندنت عربية