د. صادق القاضي
الشيخ "محمد أحمد منصور".. عواصف الجدل وماذا وراء الأكمة؟
أثار رحيل الشيخ الكبير والشاعر القدير "محمد أحمد منصور" (1930 :2021). مؤخراً. في الأوساط والفضاءات العامة. على هوامش الأسى والأسف والثناء على الفقيد. موجةً جديدة من اللغط القديم، المسيس والموجّه في أغلبه، حول حياة وتاريخ هذه الشخصية الاجتماعية والسياسية والأدبية المخضرمة.
لطالما كان هذا "الشيخ" مثيراً للجدل، ولست هنا للخوض مع الخائضين، وإن كان المقام يستدعي بعض الملاحظات ذات الصلة، ولفت النظر لكون هذا الرجل يمتلك شخصية متعددة الجوانب والاهتمامات، وتجربة طويلة ثرية مؤثرة.. لا يمكن اختزالها بأحكام ساذجة أو مغرضة، كما يفعل بعضهم في ظل الغوغائية والتسطيح المهيمنة على مواقع التواصل الاجتماعي.!
أنكر بعضهم عليه حتى أن يكون شاعراً.! لا حاجة للرجل لشهادة في هذا الشأن. كشاعر متميز أصيل معاصر.. احتفظ بتقاليد القصيدة العربية، مع تحقيق جدته الفنية، وبراعته الأسلوبية، وبالذات في شعر الغزل، وقضية المرأة، ومنها قوله:
ليت أهل العمائم البيض تبني .. ما بنته الضفائر السوداءُ
هذا البيت، والقصيدة التي تتضمنه، و"الأعمال الشعرية الكاملة".. حافلة بشواهد على نزعة فكرية تحررية حداثية تقدمية.. "قد" تتعارض "مبدئياً" مع ما اشتهر عن الشاعر كـ"شيخ قبيلة"، بما تعنيه "المشيخة" و"القبيلة" من ظواهر ومظاهر سياسية واجتماعية سلبية رجعية مناقضة لمفاهيم الدولة والمواطنة والمجتمع المدني الحديث.!
على الصعيد نفسه. يقول:
إني لتغضبني الفوارق كلما .. ظهرت وتغضب كل إنسان أبيّْ
فالشمس لو طلعت توزع بيننا .. إشعاعها ظلماً. لقلت لها: اغربي
وهي دعوة صريحة للعدالة والمساواة ورفض مطلق للعنصرية ومجابهة جريئة للطبقية.. وفي المقابل. يوصف هذا الشاعر بـ"الإقطاعي الأكبر". حيث يقال إنه. يمتلك بالوراثة والاكتساب، أراضي شاسعة تنبسط على حوالي خمس عزل في مديرية ذي السفال. محافظة إب.
وإلى هذه المفارقات. "قد" يبدو أن الجمهور المناوئ للرجل. جمهور مدني يحمل قضية نبيلة ويدافع عن الحرية والمواطنة والدولة.. وينشد البديل العصري.. والعدالة الاجتماعية.
بيد أن الواقع المحبط. أن مثل هذا الجمهور لا وجود له، ففي هذه القضية ككثير غيرها، توجد في الأغلب. "جوقة" تقليدية تابعة لجماعة دينية رجعية معروفة تابعة بدورها للقوى القبلية في "شمال الشمال". حيث المعقل التاريخي والقلعة الأخيرة للقبيلة السياسية في اليمن.
"القبيلة السياسية مقبرة الدولة في اليمن"، وهي قاعدة وظاهرة عامة، تأكدت أكثر مما ينبغي، خلال القرون والعقود والسنوات الماضية، كما هي قضية نبيلة ثرية بالوقائع والشواهد لمن أراد أن يتحدث بموضوعية وتجرد عن تجليات وإشكالات هذه الظاهرة المرَضية المزمنة.
المهم أن لا تتم مقاربتها بانتقائية، أو معالجتها من داخل دائرة التحيزات. هذه المعضلة متجذرة في الجنوب والشمال والوسط، لكن بدرجات متفاوتة، حيث يمكن ملاحظة أن رعية بعض المشايخ، ومناطق قبائلهم، نموذج مرعب للجهل والتجهيل والعصبية والبداوة والحرمان.. بما لا يمكن مقارنته مع الشيخ منصور ومنطقة الجعاشن، مثلاً: بالمقارنة مع مشايخ آل الأحمر. الشيخ منصور رجل تقدمي ينتمي إلى ما بعد الحداثة، و"الجعاشن". مقارنة بالعصيمات مدينة كوزموبوليتية من خمسة نجوم.
يقتضي الموقف بعض المبالغة لإبراز هذه الفجوات الشاسعة: ما تزال "حاشد" تعيش حضارياً في العصور الوسطى. كذلك. بدرجات متفاوتة. أجزاء كبيرة من صعدة والجوف ومارب وعمران.. لكن القضية أثيرت فقط عن "الجعاشن"، ودوناً عن مشايخ كبار لديهم تاريخ صراع طويل مع الدولة والجمهورية والمدنية.. أثيرت القضية فقط ضد الشيخ محمد أحمد منصور.!
إذن. وراء الأكمة ما وراءها، ليس من الأخلاق إنكار أن هناك مشكلة في الجعاشن، لكن ليس بالشكل الذي فبركته "جماعة الإخوان"، النسبة الساحقة من الذين قيل إنهم "مهجرو الجعاشن"، مقيمون في صنعاء من عشرات السنين، وينتمون للجماعة المحرضة، ومن المهم ملاحظة أن هؤلاء لم يجربوا اللجوء إلى القضاء.. بل توجهوا مباشرة لاستعراضها بشكل إعلامي سياسي ثوري في الميادين العامة.
هكذا حصلت السيدة "توكل كرمان" على "جائزة نوبل للسلام"، واحتفلت بها مع الجنرال "علي محسن الأحمر" أكبر أمراء الحرب في اليمن، والشيخ "حميد الأحمر"، شيخ مشايخ حاشد والعصيمات وعمران.. ونجل الشيخ عبد الله الأحمر الرمز الأكبر والأعرق للقبيلة السياسية الحاكمة. بمعنى أن لا علاقة بين "قضية الجعاشن" والشعارات الإنسانية التي قدمت بها، وأن هذه القضية سياسية أكثر منها حقوقية، والمشكلة في جوهرها لا تتعلق بهؤلاء المتظاهرين، أو الجمهور الذي دشن الحملات الإعلامية.. مشكلة الشيخ منصور هي مع الرعاة الذين يحركون الرعاع، وهي مشكلة متعددة الجوانب والأطراف والأبعاد:
- إيديولوجياً: رؤية الشيخ منصور، وفكره، كما يتجلى في شعره أعلاه، مناهض تماما لمجمل المنظومة الفكرية الأيديولوجية لجماعة الإخوان المسلمين، الجماعة التي شنت حملات التحريض ضده وتولت كبر "قضية الجعاشن".
- قبلياً: الشيخ منصور لا ينتمي للوبي القبلي التقليدي الحاكم، ويختلف بنيويا عنه، فهو كشيخ غير تقليدي. تتحدر أصوله من محافظة الضالع في الجنوب، فإن علاقته برعيته في الجعاشن. لا تقوم على أساس عرقي، بل تخالف الشرط التقليدي القبلي لعلاقة الشيخ برعيته.
يمكن هنا تأكيد. أن الشيخ "منصور" إقطاعي أكثر منه شيخاً. و"الجعاشن" منطقة أكثر منها قبيلة، وهذه النقطة. رغم كل شيء، نقطة إيجابية تقدمية لصالح الشيخ، مقارنة برموز وتجليات القبيلة السياسية في اليمن.
- سياسياً: كان الشيخ منصور مقربا من الرئيس السابق، الذي كانوا مقربين منه أيضاً، لكن ربما لأنه لا ينتمي لذلك اللوبي القبلي التقليدي الحاكم، أو لأنه مناوئ للتوجه السياسي لهذا اللوبي، وللأسباب السابقة إجمالاً. تمت محاولة شيطنته، والتحريض عليه من قبل هذا اللوبي، الذي كان حاكماً، والجماعة السياسية الدينية التي يستخدمها في ضرب خصومه وتحقيق مصالحه الانتهازية الضيقة.