وقفت وتوجهت بوجهي نحو الكعبة لأداء الصلاة، دخلت بتكبيرة الإحرام تلتها البسملة، وفجأة رُسمت أمامي لوحة بلونها القاني تسيل فيها دماء وقد اختلطت بالمازوت والبارود والتراب، هذه الدماء التي لم تكن إلا مقدمة لما يكون خلفها، يظهر شيئاً فشيئاً حتى كانت الصورة مكتملة، فإذا هو جنين للتو ومجبراً وبقوة البارود وحقد الشيطان خرج من بطن أمه التي كانت قد أسلمت روحها إلى الله وقلبها على جنينها الذي طالما حلمت بقدومه.
صورة الجنين وهو ملقى على الأرض منكباً عليها، وقفت أمام صلاتي وقطعت وقوفي أمام الله الذي رأى مشهدا رسمه الشيطان في عدن، مشهداً لم يكن لأحد يتوقع أن يجد البارود طريقاً ومسلكاً نحو أسرة صحفية، خرجت من منزلها ربما إلى طبيب يطمئنها عن سلامة الجنين والفرحة ملء شدقيها، ولعل تلك الفرحة اغاضت الشيطان واطلق حقده ليغتال الصحفية رشا الحرازي وجنينها ويصيب زوجها محمود العتمي.
يا ترى.. قبل أن تُسلّم رشا روحها إلى الله ماذا كان يجول في خاطرها عن جنينها، وماذا كانت تقول له في نفسها وتُسمعهُ صوتها بقلبها، ربما تحدثت إليه والبسمة تعلو شفتيها فرحة به متلهفة لقدومه، وتخبره في تلك اللحظات انها ذاهبة للطبيب أو ربما للنزهة واستنشاق هواء نقي من أجل سلامة ما في بطنها.
نعم.. طفلي هذه عدن التي أحببناها وتسلل حبها إلى أفئدتنا، عدن يا طفلي هي صلاة المحبة ونبع السلام وسكينة الملائكة في ضوضاء الكون المعتم، عندما تأتي إليها يا طفلي ستدرك من صرختك الأولى أن لها قدسية لن تفارق روحك، لكنها هذه الفترة لا تنم بسلام وتعيش أوضاع الشيطان ويختبئ فيها صوت من الشر يطلق شرارات حقده ويسكب عليها الجحيم لأنها رفضته وترفضه.. هكذا ربما كانت رشا تعطي جنينها صورة عن الأوضاع وتمنحه جرعة من كأس المحبة بفم عدن.
قبل أن يغتال الشيطان رشا بلحظات كانت ربما تتعهد في نفسها أن تحمي طفلها وتمنحه كل وسائل الراحة حتى يبلغ رشده، تراه في الشارع يمشي عائداً من المدرسة وهي تنتظره على نافذة الغرفة بلهفة وشوق، وتارة تراه وهو يلعب في حجرة البيت له ضحكة الملائكة تنبت في قلبها رحمة وشفقة، وتارة تراه شاباً يملأ عينيها نوراً بقامته وطاعته لها.. ثم تتوقف عن ذلك التفكير وتمسك بيدها على بطنها تتلمس حلمها الذي غادرت وهو ملقى على قارعة الطريق جسداً ساكناً محاطاً بالدموع والأسى.
لم أكمل الصلاة ولم أدر ما تليت، انتابني شعور بالعجز عن الوقوف، وعجز في التركيز، تاهت عيوني في بحر من الدموع وغرق قلبي في بحار من الحزن، ربما الموت لم يوجعني كثيراً كما أثخن في صدري وجعاً بتلك المشاهد التي تتألف منها جريمة مزّقت جسد الأم وألقت بطفلها في العراء يتيماً من حنان الأم يدثره من غبار الموت.
عدن وهي تحاول أن تختزل في نفسها روح الجميع وبذرة التعايش وناصية المقاومة، تحاول أن تكون صوت الحرية وطريق البنادق المؤمنة الكرامة والحرية والتي ترى في صنعاء ظُلماً يتوجب عليها أن تزيحه عن وجهها لتشرق من جديد، عدن هي تحاول أن تنهض من بين مخالب الفوضى وأنياب الإخوان وحقد الحوثي، تحاول أن تستعيد عافيتها لتكون كما يريدها أبناؤها.
ماذا الآن.. من يغطي الجنين ويعيد والدته لتحتضنه بالدفء والحنان، من يزيح عنه الغُمّة والأسى اليتيم الذي أخرجه من بيت التكوين الأول لجسده، من يعطي للطفل في موته صوتاً كصوت أمه تبكيه وتنوح بالحزن وتشق الثياب محاولة أن تلبس موته ليترك طفلها، من يعيد رشا لطفلها تبكيه، ومن يعيد الطفل لحضن أمه حيث الأمان..!!