صراع وطني وإمكانية صمود.. اليمن بين آلة العنف الحوثي وهزال الشرعية

السياسية - منذ 4 ساعات و 24 دقيقة
صنعاء، نيوزيمن، خاص:

يعيش اليمن مرحلة مفصلية وحاسمة على صعيد الصراع بين مشروع الحوثي المدعوم بالعنف والإرهاب، وأطراف الشرعية الوطنية المتعثرة في مواجهته. فالحوثي، رغم ما خلفه من مأسي وانهيارات اقتصادية واجتماعية في مناطق واسعة من البلاد، يبرز كقوة منظمة وفعالة، قادرة على فرض وجودها وممارسة نفوذها على الأرض. 

يسير الحوثي بخطط ثابتة ومدروسة منذ أول طلقة أطلقها في محزمه وحتى اليوم، معتمداً على مزيج متقن من العمليات العسكرية المباشرة، والأنشطة الاجتماعية والسياسية والتنظيمية التي تضمن له استمرارية السيطرة على المناطق الخاضعة له. هذه الاستراتيجية متعددة الأبعاد تشمل إنشاء شبكات اجتماعية توفر له قاعدة دعم محلية، وتوظيف المؤسسات التعليمية والخدمية لتعزيز الولاء والتأثير على الرأي العام المحلي، إضافة إلى استغلال الإعلام المحلي والدولي لترويج روايته وتسويق موقفه. 

وبهذه الطريقة، ينجح الحوثي في الحفاظ على تماسك جماعته، وتعزيز قواعده الشعبية، مع خلق حالة مستمرة من الانضباط والتوجيه السياسي، ما يجعله قوة قادرة على الصمود وممارسة النفوذ رغم الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية المتزايدة.

الحوثي.. تنظيم وجدية في التحرك

ما يميز الحوثي هو جدّيته العالية في معركته؛ فهو لا يترك أسبوعًا أو شهرًا دون أن يطلق قضية اجتماعية أو سياسية أو تنظيمية، في محاولة مستمرة لتعزيز تماسك جماعته وضمان استمراريتها. هذه الجدية تتجسد في تنسيق دقيق بين الأبعاد العسكرية والسياسية والاجتماعية، مما يتيح له الحفاظ على النفوذ والسيطرة رغم الضغوط المستمرة من التحالف العربي والمجتمع الدولي.

وأشار تقرير الصندوق الدولي للأزمات لعام 2024 إلى أن تنظيم الحوثي يعتمد على بنية إدارية وعسكرية محكمة، تشمل مستويات متعددة من القيادة، مع قدرة على التحرك بسرعة واتخاذ قرارات تكتيكية واستراتيجية في آن واحد، ما ساعده على بسط نفوذه في مناطق واسعة من شمال ووسط اليمن، بما فيها محافظات صعدة، صنعاء، وحجة.

وفقًا لتقرير سابق لمركز صنعاء للدراسات، تمكن الحوثيون من "بناء جهاز أمني قوي، وتطوير شبكة من الموالين في مختلف القطاعات، مما يعزز قدرتهم على السيطرة على المناطق الخاضعة لهم"، بينما أوضح مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن التنظيم "يسعى لتوسيع نفوذهم الإقليمي، وليس فقط إدارة وجودهم في اليمن"، مع التركيز على بناء تحالفات سياسية وإقليمية لدعم مشروعه طويل المدى.

في الجانب الاجتماعي، أظهرت تقارير الأمم المتحدة لعام 2023 أن الحوثيين نجحوا في إنشاء شبكات مجتمعية واسعة تشمل برامج تعليمية ودينية، إضافة إلى مؤسسات خدمية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، ما ساهم في تعزيز ولاء السكان وجعلهم عنصرًا فعالًا في استمرارية المشروع. كما أشار الخبير العسكري اليمني محمد الأهدل إلى أن "الجدية في التخطيط والتنظيم الداخلي هي السبب الرئيس في بقاء الحوثي رغم الضغوط العسكرية الدولية والإقليمية"، مؤكداً أن هذا التنظيم المستمر يجعل من الصعوبة بمكان تفكيك بنيته بسرعة.

في المقابل، تظهر أطراف الشرعية في حالة من التشتت والضعف، مع غياب استراتيجية وطنية واضحة وقادرة على مواجهة الحوثي. ويشير خبراء مثل د. فيصل الشامي، الباحث في شؤون اليمن، إلى أن "التنظيم الفعال لا يكفي وحده، بل يحتاج المجتمع الوطني إلى وحدة واستراتيجية شاملة، وهو ما نفتقده اليوم"، مضيفًا أن التباين بين قوة الحوثي وهزال الشرعية يفاقم الأزمة الإنسانية والسياسية ويضع المجتمع اليمني أمام تحديات كبيرة في سبيل استعادة الأمن والاستقرار.

فيما يؤكد الخبير العسكري، محمد الأهدل، في تحليله أن "الجدية في التخطيط والتنظيم الداخلي هي السبب الرئيس في بقاء الحوثي رغم الضغوط العسكرية الدولية والإقليمية". كما أشار تقرير الأمم المتحدة عن اليمن في 2023 إلى أن الحوثيين نجحوا في إنشاء شبكات اجتماعية تدعم سيطرتهم، تشمل برامج تعليمية ودينية تعزز ولاء السكان.

الشرعية الوطنية: حالة من الهزال والتشتت

على النقيض، تبدو أطراف الشرعية الوطنية في حالة من الهزال المستمر، عاجزة عن إنتاج استراتيجيات وطنية واضحة أو بناء تنظيم سياسي وعسكري قادر على مواجهة آلة الحوثي المنظمة. هذا الضعف لا يقتصر على الجوانب العسكرية، بل يمتد إلى الفضاء السياسي والإداري والاجتماعي، ما أدى إلى تفاقم أزمة الثقة بين المواطن والدولة.

تقرير مركز صنعاء للدراسات السياسية لعام 2023 وصف الوضع قائلاً: "الانقسامات الداخلية وعدم وجود قيادة استراتيجية واضحة يضعف قدرة الشرعية على مقاومة الحوثي ويزيد من هشاشة المجتمعات المحلية"، مؤكدًا أن غياب التنسيق بين مختلف الفاعلين الحكوميين والسياسيين أسهم في استمرار حالة الشلل المؤسسي وتفاقم التداعيات الأمنية والاقتصادية على السكان.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي أحمد غالب أن "التشتت الداخلي بين القوى الوطنية أضاع فرصًا مهمة لتوحيد الصفوف ضد التهديد الحوثي، ما أضعف القدرة على تحقيق صمود مجتمعي فعّال". ويضيف غالب أن التركيز على الصراعات اليومية والحسابات الضيقة أضعف القدرة على بناء رؤية شاملة تشمل الأمن والخدمات والتنمية، مما أتاح للحوثي استثمار الفراغ واستمرار مشروعه بعنف متصاعد.

من جانبه، يلفت الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي إلى أن "الحوثي ليس نموذجًا للصمود، بل هو آلة عنف وإرهاب تسير بسرعة قصوى نحو الهلاك.. ولكنه سيهلك بعد أن يكون مجتمعنا هالكًا أيضًا". ويضيف: "غير أن الحوثي جاد في تحركه منذ أول طلقة إرهابية في محزمه وحتى اليوم، فهو لا يترك أسبوعًا أو شهرًا دون قضية تحركه اجتماعيًا وسياسيًا وتنظيميًا. وفي المقابل، أطراف الشرعية تعيش هزالًا لا يتوقف. نحن بحاجة لتنظيم يشغل اليمنيين بمعركة الصمود، بمتطلبات التماسك، بدل هذا الشتات في معارك يومية تنتهي إلى لا شيء".

تؤكد هذه التحليلات أن الشرعية الوطنية تواجه تحديًا مزدوجًا: ضعف التنظيم الداخلي، والانقسامات بين مكوناتها المختلفة، وهو ما يهدد قدرة اليمنيين على الصمود أمام مشروع الحوثي. تقرير الأمم المتحدة عن اليمن 2024 أشار إلى أن غياب قيادة موحدة وإستراتيجية واضحة للشرعية أسهم في "تضاؤل أثر الدعم الدولي والمجتمعي على الأرض، وخلق حالة من الانقسام بين القوى الوطنية والمجتمعات المحلية"، وهو ما يزيد من هشاشة الدولة وقدرتها على حماية مواطنيها.

نموذج وطني للصمود

ويكشف تحليل الفوارق بين مشروع الحوثي المنظم وأطراف الشرعية المتعثرة عن الحاجة الماسة لنموذج وطني للصمود في اليمن، يقوم على أسس التنظيم والاستراتيجية وتفعيل المشاركة المجتمعية. ويتطلب هذا النموذج بناء تنظيم سياسي واجتماعي فعال يضمن توحيد الصفوف الوطنية وتحويل القوى المختلفة إلى جبهة موحدة قادرة على مواجهة التحديات على المدى الطويل، حيث يؤكد تقرير مركز الدراسات اليمنية لعام 2024 أن التنظيم الموحد بين الفاعلين المحليين يعزز قدرة المجتمع على الصمود ويقلل من آثار النزاعات الجانبية. 

إضافة إلى إشراك المجتمع في قضايا الصمود عبر حملات مجتمعية تهدف إلى تعزيز الوعي الوطني والانتماء، بعيدًا عن النزاعات اليومية التي لا تعود بأي أثر ملموس على الحياة العامة، إذ تشير دراسة صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن المشاركة المجتمعية تقلل من معدلات الانزلاق نحو النزاعات المسلحة بنسبة تصل إلى 30%.

كما أن النموذج يتطلب تبني رؤية استراتيجية واضحة تشمل الأمن والسياسة والاقتصاد، مع ربط العمل العسكري المحدود بالجهود التنموية والخدمية لضمان استقرار المواطنين ومناطقهم، حيث يشير تقرير مركز كارنيغي للشرق الأوسط 2023 إلى أن البلدان التي تعتمد على خطط استراتيجية متكاملة تستطيع تجاوز الأزمات الداخلية بشكل أسرع. وأخيرًا يستلزم التركيز على البناء المؤسسي وتعزيز قدرات الدولة في مختلف القطاعات لضمان استمرارية الخدمات الأساسية وحماية المواطن من الانهيار الاجتماعي، وهو ما أكده تقرير البنك الدولي عن اليمن 2024، مشيرًا إلى أن ضعف المؤسسات يؤدي إلى زيادة الفقر وانعدام الأمن، ويقلل من فرص الصمود الوطني.

إن اعتماد هذا النموذج لا يعيد فقط الأمل لليمنيين، بل يوفر أدوات مواجهة فعالة لمشروع الحوثي المدعوم بالعنف والإرهاب. عبر الجمع بين التنظيم السياسي، ومشاركة المجتمع، والرؤية الاستراتيجية، والبناء المؤسسي، يمكن لليمن أن يتحول من حالة التشتت والهزال إلى مجتمع قادر على الصمود المستدام، ويمكّن الدولة من استعادة زمام المبادرة على الأرض وتوجيه مسار التنمية والسياسة بما يخدم مصلحة المواطنين.