التأجيل في السياسة ليس حلاً، بل هو منح الأزمات والمخاطر الوقت الكافي لتتضخم وتكبر.
ومشروع إيران النووي مشكلة كبرى وأزمة حقيقية، وكان «الاتفاق النووي» منذ البداية مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مجرد ترحيل وتأجيل لهذه المشكلة وليس حلاً لها.
كان مجرد طلب من إيران أن تؤجل مشروعها النووي لبضع سنواتٍ، وتغاضى ذلك الاتفاق السيئ عن كل مشكلات إيران الأخرى، من الصواريخ الباليستية والمسيّرات المفخخة والتدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى.
«مفاوضات فيينا» بين دول «خمسة زائد واحد» مع النظام الإيراني في جولاتها السبع الماضية والجولة الثامنة المقبلة هي مجرد محاولة لاسترجاع التأجيل السابق وتمديد هذا التأجيل في المستقبل، والتأجيل لم يكن يوماً حلاً لأي أزمة إقليمية أو دولية.
ومن هنا فأي متابعٍ لهذا التفاوض الدبلوماسي يكتشف بسهولة أن الصلف والتشدد الإيراني يقابله تساهل يشبه الرجاء من قبل المفاوضين الأميركيين والأوروبيين.
الدول المعنية حقاً بالخطر الإيراني النووي وغير النووي هي دول الخليج العربي وإسرائيل، لقرب هذا الخطر منها، واستهدافها بشكل مباشر بكل استراتيجية التوسع الإيرانية، ولعمق المعرفة بأبعاد هذا الخطر ودوافعه الأيديولوجية والسياسية، والوعي الحادّ بجميع تفاصيل التوسع الإيراني والآليات المعتمدة على الأرض لتطبيق المبدأ الإيراني الرئيسي (تصدير الثورة)، وطرائق وأساليب التعامل مع البشر من سكان الدول التي اقتحمتها إيران في العراق وسوريا وفي لبنان واليمن، من «الميليشيات الشيعية» إلى جماعات الإسلام السياسي السنية، إنْ عن طريق الاستتباع المباشر أم عن طريق الإخضاع القاسي.
دول الخليج العربي في قمة الرياض الأخيرة، وما سبقها من تحضيرات لها، ومن جولة ولي العهد السعودي الخليجية، كانت تهدف لتوحيد الصفّ أمام هذا الخطر الداهم والحقيقي والواقعي، خصوصاً أن هذه الدول تشاهد بوضوح أن التأجيل الغربي في التعامل مع إيران يزيد النظام الإيراني قوة، ويمنحه الفرصة لإنجاز المشروع النووي وتحويله لسلاحٍ نووي، وأن استبعاد ممارسة الضغوط والسياسة الخشنة مع إيران بعث برسالة واضحة لإيران للاستمرار في استراتيجيتها ومشروعها النووي والتوسعي، وهو ما تصنعه إيران بكل وضوح.
دولة إسرائيل بدورها تواجه هذا الخطر الإيراني سياسياً واستخباراتياً وعسكرياً، في سوريا أولاً، وداخل إيران نفسها، وتفاصيل العمليات الإسرائيلية منشورة ومُعلَنة، والموقف السياسي الإسرائيلي الضاغط على أميركا والدول الأوروبية واضحٌ ومعلنٌ بدوره.
«إيران النووية» ستغير شكل العالم كما عرفناه منذ عقودٍ وإلى الأبد، وستخلّ بكل القوانين والمؤسسات الدولية، وستطلق سباقاً نووياً دولياً لن تستطيع الدول العظمى في العالم إيقافه، وستدخل البشرية في مرحلة تاريخية مختلفة تماماً، وهذه نظرة واقعية مبنية على الحقائق والمعلومات، وليس لها أي علاقة بالتفاؤل والتشاؤم.
وكل هذا التأجيل والتساهل السائد في التعامل مع إيران اليوم سيجر الويلات على البشرية، لا في المنطقة فحسب، بل في العالم بأسره.
سؤالان ملحَّان في هذا السياق: هل يمكن إيقاف وهزيمة المشروع النووي الإيراني؟ ثم هل يمكن مواجهة التوسع وبسط النفوذ الإيراني؟
الجواب ببساطة هو: نعم.
ومن الواضح أن «مفاوضات فيينا» و«الاتفاق النووي» الناقص والمعيب ليسا الطريق الصحيح لإيقاف وهزيمة المشروع النووي الإيراني، وإيران والميليشيات التابعة لها لا تفهم سوى لغة القوة، ولغة القوة وحدها، فالدبلوماسية والمفاوضات معها من دون وجود خيار القوة على طاولة المفاوضات لا تؤدي إلى شيء.
وسبق أن صرّح جون كيري وزير خارجية أوباما بأنه لا يستطيع التفاوض وهو ممنوع من وضع خيار القوة على الطاولة.
أما مواجهة استراتيجية التوسع وبسط النفوذ الإيراني فهي ممكنة ولها سوابق مختلفة؛ ففي سوريا وجهت إسرائيل ضرباتٍ موجعة لكل الوجود الميليشياوي الإيراني على كامل التراب السوري، وأجبرت إيران على التقهقر، وعطّلت كثيراً من خططها وتكتيكاتها، وإيران لا تتوقف ولا تتراجع ولكنها تنهزم.
وبالمقابل وفي العراق فقد انتصر الشعب العراقي وحكومته بدعم من السعودية ودول الخليج في العديد من الملفات هناك، وأهمها نتائج الانتخابات الأخيرة التي أظهرت كم من السهل هزيمة التمدد الإيراني حين تتحد الصفوف وتتكاتف الجهود.
والأمر عينه جرى في اليمن مع ميليشيات الحوثي الإيرانية، فضربات التحالف القاصمة أعادت هذه الميليشيات سنواتٍ إلى الوراء، وألحقت خسائر كبرى بالخبراء الإيرانيين واللبنانيين الذين يقودون ميليشيات الحوثي خدمة للمشروع الإيراني، وهزيمة التمدد الإيراني هناك، ولكن إيران لا تتوقف ولا تتراجع.
كتب الشافعي حكمة سائرة تقول: «ما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك».
وهو ما تعمل عليه السعودية، ومعها دول الخليج والدول العربية منذ سنواتٍ، بحيث تتشكل قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة تثبّت السيادة والاستقرار، وترعى المصالح وتحمي الدول والشعوب بعيداً عن حسابات الدول العظمى في العالم، خصوصاً التقلبات التي يشهدها العالم لدى الدول الغربية، الحليف التقليدي لدول الخليج.
فالقوة الذاتية لا تسمح للحلفاء أو الخصوم باتخاذ قراراتٍ ضارّة أو عقد اتفاقات سيئة لا تراعي مصالح دول المنطقة وشعوبها.
لم تفرّط دول الخليج في علاقاتها المميزة والتاريخية مع الدول الغربية، وهي تبني على الماضي وتعزز هذا التحالف، ولكنّها في نفس الوقت ليست رهينة له، بل هي دولٌ مستقلة ذات قرارٍ.
ومن هنا فتحت مجالات التواصل واسعة مع كل القوى المؤثرة حول العالم، من روسيا والصين والهند وغيرها، ولئن كانت لغة السياسة هي المصلحة، فإن المصلحة متنوعة ومتشعبة ولها مصادر مختلفة وفي أحيانٍ متباينة، وما لا يُدرَك كلُّه لا يُترك جله.
الحلفاء الغربيون يأتون متأخرين في بعض الملفات، لأسباب وأبعادٍ معروفة، ومما بدا يصدر من الغرب مؤخراً الاعتراف بتوفير إيران الرعاية والحماية لقيادات تنظيم «القاعدة»، والأهم لبعض قيادات تنظيم «داعش»، بعدما كانت الاتهامات الغربية جاهزة لبعض الدول العربية، على الرغم من كل المعلومات والحقائق التي كانت تنطق بما لا يدع مجالاً للشك عن مسؤولية إيران في دعم ورعاية هذه التنظيمات الإرهابية السنية.
أخيراً، فالسعودية ودول الخليج والدول العربية لديها كثير من مصادر القوة والتأثير في العالم على المستويات الثلاثة، والنجاحات الاقتصادية والتنموية لهذه الدول حديث العالم، وهي تعمل بنفس القوة والنجاح في بناء القوة الرادعة إقليمياً ودولياً.
*نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط"