المثقف اليمني بدأ فعله الثقافي والفكري وهو مستقطب سياسياً، أي في حالة من الانتماء لفكرة سياسية رسمت حدود وعيه الفكري والنقدي، أو أن الانتماء الحزبي كان دافعاً رئيسياً للتعاطي مع المسألة الثقافية والمعرفية لدى السواد الأعظم من المثقفين في شمال اليمن وجنوبه، لهذا -وبرغم غزارة الأحداث السياسية والعسكرية التي تستدعي العمل النقدي- لم يتحول المثقف اليمني إلى مفكر وناقد بالمفهوم الذي يجعل منه مثقفا أو كاتبا يشتغل على مطاردة الحقيقة التي تعني بحد ذاتها الاشتغال على نقد الواقع والذات والسلطة وحتى التجربة الثورية والسياسية والحزبية دون حدود معتبرة ودون حسابات سياسية / تحيزية تفرضها فكرة الانتماء السياسي على حساب الحقيقة التي يجب أن يطاردها المثقف بوعيه النقدي (الأنتليجنسيا) أو المثقف الشمولي، حسب تعبير فوكو.
ولما كانت مثل هذه المطاردة التي يجب أن يضطلع بها المثقف (الكاتب) تعد تعبيراً عن وعيه الحداثي واستقلال فعله النقدي الذي يؤسس لسلطة أهل الفكر، فإنها دائماً ما تزعج السياسي السلطوي الذي يسعى دائماً إلى استقطاب المثقف في كل مجتمع يخوض معركة التغيير، وحتى إن كان هذا السياسي يعد امتدادا لسلطة الثورة، فإنه يسعى إلى تغييب حضور المثقف كجهاز مفاهيمي لصالح حضوره كسياسي، -لا سيما في المجتمعات العربية.
قد نجد مثل هذا الامتعاض لدى السياسي في بيان السياسي روبيسبير حين قال في معرض هجومه على الكتاب الفرنسيين إن نقد هؤلاء لا يعرف الحدود، لكن نقد هذا السياسي كان لا يعني يومها أن المثقفين أو الكتاب الفرنسيين قد انفصلوا عن وعيهم بذاتهم كحاملين للحداثة، وعن دورهم التنويري النقدي في معركة التغيير، بل كانوا كذلك، لهذا تحول الكثير منهم إلى مفكرين وفلاسفة لم يؤسسوا لسلطة أهل الفكر في فرنسا فقط، بل أكثر من ذلك أسسوا الفكر السياسي الحديث بكل مفرداته الحديثة التي ما زلنا نناضل من أجلها حتى اليوم في اليمن (مفهوم الدولة مفهوم الوطن والمواطنة، مفهوم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية...) وهذه المفاهيم هي التي غيرت ملامح العصر الحديث داخل القارة الأوروبية، وفاضت بكأسها التنويري على بقية الدول العصرية في المعمورة.
المثقف اليمني «كاتباً كان أو متكلما» لم يتحول بعد إلى ناقد ومفكر ولم يصنع فرصته في سبيل ذلك، بل يتحول تدريجياً بسبب فكرة الانتماء إلى سياسي يخوض معترك السياسة والصراع السياسي -بحسب الموديل اليمني- من أجل تأسيس سلطة الحزب السياسي ومشروعه الأيديولوجي الأحادي الذي لا يؤمن بوجود الآخر، الأمر الذي جعل الصراع السياسي الحزبي وحتى الصراع الجهوي والمناطقي يتكرر ويعيد نفسه، بكونه صراعا بين التقدم والتخلف، بل من أجل السيطرة على السلطة التي تظل أداة لتطبيق مشروع اقصائي أحادي حزبي، يعيق في الواقع حضور السياسة كفكرة وفعل سياسي مدني يعمل على تأسس مفهوم الدولة والديمقراطية التعددية التي تجعل طريق الحكم آلية سياسية ديمقراطية تقوم على عد الرؤوس وليس قطعها، على حد وصف الباحث على خليفه الكوري.
المثقف اليمني وجد نفسه يخوض معركته كمثقف «بوعي أو بدون وعي» من أجل تأسيس سلطة سياسية حزبية لا تؤمن حتى بوجوده ودوره التنويري داخل المجتمع بدلاً من أن يعمل كمثقف تنويري ناقد للواقع القائم، وفي نفس الوقت حامل للحداثة وداعية للتغيير، أي يعمل على تأسيس سلطة أهل الفكر في وجه سلطة رجال السياسة الذين ظلوا يستنزفون اللحظات التاريخية ويضيقون ذرعاً بوجود المثقف ودوره، على سبيل المثال المثقف عبدالفتاح اسماعيل تآمر عليه الكثير من رجال السلطة السياسية وضاقوا ذرعاً به، ومع أنه قدم استقالته من رئاسة الدولة حقنا للدماء إلا أنه قتل في خضم الصراع السياسي على السلطة.
المثقف اليمني ودوره حتى اليوم، غير منفصل عن الطموح السياسي ودوافعه، لهذا لا يستطيع أن يؤسس لسلطة أهل الفكر لأن سلطة أهل الفكر يجب أن تقوم على نقد الواقع والاشتغال به كما فعل مثقفو عصر التنوير في أوروبا، وفي نفس الوقت تقوم في وجه سلطة السياسي (رجل السلطة) كما أن المثقف الذي تم جره عن طريق فكرة الانتماء المسبقة إلى مربع الصراع السياسي الحزبي حتى وإن كان في موقع المعارضة لا يستطيع أن يؤسس لسلطة أهل الفكر في مجتمعه لأنه أصبح سياسيا متحيزا يناضل من أجل الانتصار للفكرة السياسية التي يؤمن بها الحزب أكثر من كونه مثقفا وناقدا وكاتبا يشتغل على مطاردة الحقيقة والانتصار لها.
المثقف اليمني حتى وإن ترك بعد ذلك العمل الحزبي أو أهمل فكرة الانتماء السياسي التحزبي، يظل في نظر المجتمع محسوبا على طرف سياسي، أكثر من كونه مثقفا وناقدا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المثقف السياسي يصبح في حالة صدام مع المثقف المنتمي للحزب الآخر بشكل تلقائي، ما يعني في النتيجة أن المثقفين السياسيين خصوصا في اليمن يستحيل عليهم أن يتحولوا إلى نخبة متجانسة تشتغل على نقد الواقع عن طريق الأفكار الثقافية التنويرية الحداثية التي تؤسس بطبيعة الحال لرأي عام فعال ومؤثر داخل معادلة الصراع ويكون هو في النتيجة -أي هذا الرأي العام الفعال- تعبيراً عن سلطة أهل الفكر التي حركت الجماهير في وجه رجل السلطة (السياسي) الذي ما زال يستنزف اللحظة التاريخية في اليمن.