د. ياسين سعيد نعمان
الدين والاقتصاد.. نقاط ضعف تحولات تاريخية كبرى بأوروبا الحديثة
أثناء الحرب الباردة حل السلام في أوربا.
كانت الحرب الباردة بمثابة مخزن تبريد ضخم وضعت فيه آنذاك معظم مشاكل أوروبا والعالم.
في هذا المخزن كان يتم خزن وتبريد هذه المشكلات بسبب توازن الرعب والخوف من أن يؤدي تحريكها إلى تحويلها بؤرا للتوتر ومناطق نزاع وحروب هائلة.
غير أن توازن الرعب ظل يخفي حراكاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً ومعرفياً واسعاً.
كان أحد المعسكرين فيه (المعسكر الغربي الرأسمالي) يتمتع بديناميات أشد تأثيراً في تحريك نزعة التغيير والتمرد داخل البنى والتكوينات السياسية والاجتماعية للمعسكر الآخر (المعسكر الشرقي الاشتراكي) مدعومة بالتطور الاقتصادي والمادي.
وفي حين أن ديناميات المعسكر الاشتراكي المتمثلة في دعم التحرر والسلام والعدالة والنهوض الاجتماعي كانت تنمو على قاعدة الحوافز المعنوية فقد واجهت بعد فترة من الزمن مصاعب ناشئة عن تراجع قوى الإنتاج في إبقاء هذه الحوافز عند مستوياتها السابقة من القوة.
وفي انسجام مع ما مثلته تلك الديناميات من نقاط قوة فقد كانت مهمة المعسكر الغربي هي البحث عن حلقة الضعف التي يمكن عندها كسر معادلة القوة عند الآخر، وهي نفس الفكرة التي ركز عليها لينين عندما قرر، خلافاً لماركس، من أن اختراق الرأسمالية لن يكون عند أي نقطة قوية لها، بل لا بد من البحث عن نقطة ضعف لاختراقها وكانت روسيا القيصرية.
هكذا فكر الغرب، ليجعلوا المعسكر الاشتراكي يشرب من نفس كأس لينين.
وفي حين كان الاقتصاد هو المعيار الذي استخدمه لينين في تحديد نقطة الضعف تلك، حيث كانت روسيا متخلفة اقتصادياً بالمقارنة مع بريطانيا التي اقترحها ماركس لتكون نقطة انطلاق التحول الاشتراكي، فإن الغرب استخدم التاريخ الديني كمعيار لتحديد نقطة الضعف التي كان عليه أن ينطلق منها.
وكانت بولندا هي نقطة الضعف في معادلة القوة عند المعسكر الاشتراكي.
تاريخ بولندا السياسي والديني كان دائماً في صراع مع روسيا، على الرغم من أنهم ينحدرون من عرق سلافي واحد.
كانت روسيا ارثوذكسية بينما بولندا كاثوليكية.. وكان السياسي دالة في الديني.
وتاريخ الصراع بين الديانتين هو تاريخ مشهود في هذه المنطقة من العالم.
ويرى المؤرخون أن الدين كان في معظم الحالات أساساً في تكوين الدولة وترسيم حدودها وتشكيل حرمها الجيوسياسي.
في عام 1981 قام بابا الفاتيكان بزيارة بولندا وأقام أول صلاة قداس في ساحة مفتوحة منذ الحرب العالمية الثانية في مدينة كراكوفا حضرها أكثر من مليون ونصف شخص.
أعادت هذه الحادثة رسم الخارطة السياسية في بولندا على نحو تسارعت معه التحديات التي كان يواجهها النظام السياسي الاشتراكي هناك من قبل النقابات في ميناء جدانسك، والتي تطورت بعد ذلك إلى مظاهرات ومسيرات احتشد فيها مئات الآلاف للمطالبة بتغيير النظام السياسي الاشتراكي في وارسو مقر الحلف الرئيسي للمعسكر الاشتراكي.
أخذت هذه المواجهات تحدث تأثيرها في بلدان اشتراكية أوربية.
ولم يكن مركز النظام في موسكو في وضع يمكنه من إحداث استجابة فورية تلبي مطالب الإصلاحات الضرورية التي كان من شأنها أن تجعل مقاومة الانهيار ممكنة، وتحول بينه وبين ذلك التدهور السريع.
أخذت برسترويكا جورباتشوف تتسرب إلى العقل السياسي الاشتراكي بمضامين بعيدة عن مضمونها الإصلاحي لتغدو في التحليل السياسي اعترافاً بفشل قيم النظام من وجهة نظر محبطة وزعامة فقدت القدرة على القيام بدورها التاريخي في التصدي لعملية الانهيار.
تنادت الجمهوريات التي شكلت الاتحاد السوفيتي لتوقيع اتفاقيات الاستقلال وترسيم الحدود مع يلتسين رئيس روسيا يومذاك.
ثم بدأ عهد جديد من نظام عالمي أخذت في ظله المشاكل المجمدة في مخزن تبريد الحرب الباردة تخرج إلى الفضاء لتلف العالم في أردية البارود الذي لن يتوقف إلا بنظام عالمي يسوده العدل ويحترم حق الشعوب في الحرية والسلام والحياة الكريمة.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك