د. صادق القاضي
الحوثي.. هل كتب قصائد باسم البردوني؟!
البردوني مدرسة شعرية خاصة، لها ملامحها ولغتها وأساليبها الشعرية المميزة، وقد أثرت بشكل جارف على الشعر اليمني المعاصر، بحيث نجد ملامحها واضحة في نتاجات كثير من الشعراء الشباب، ضمن تقليد واحتذاء يبدو أحيانا في غاية البراعة، حتى لكأن البردوني يكتب بأيديهم، ويمكن لغير المتابع الدقيق أن يحسب بعض قصائدهم قصائد بردونية.
يعني هذا أن بالإمكان كتابة قصيدة ونسبتها للبردوني، وهذا ما حدث كثيرا، خلال سنوات الحرب الراهنة، من قبل أطراف مختلفة، بدوافع ولأهداف سياسية واضحة، كمحاولات سخيفة لاختراق الأوساط الشعبية اليمنية التي يحظى البردوني في وعيها ووجدانها بقيمة أدبية ورمزية وحتى سياسية استثنائية عالية.
لكن القصائد المنحولة تفضح نفسها من خلال ركاكتها، ولا تنطلي إلا على العوام، وبالمناسبة، أثار الروائي اليمني الكبير "على المقري" مؤخرا. قضية "قد" تبدو ذات صلة، فحواها أن ديوانيّ الشاعر "عبد الله البردوني":
- رحلة ابن من شاب قرناها.
- والعشق على مرافئ القمر.
"قد" يتضمنان قصائد أو حتى أبيات مدسوسة على البردوني، من قِبَل "الجماعة الحوثية" التي قامت في بداية هذا العام 2022م. ومن خلال "الهيئة العامة للكتاب"، بجمع هذين الديوانين للبردوني، وإصدارهما مطبوعين في عمل واحد، يحمل العنوانين.
لا يمكن إنكار أن قيام الجماعة الحوثية بطباعة هذين الديوانين، مبادرة ذكية ذات أبعاد سياسية، لاختراق الأوساط الثقافية والأدبية، خاصة وأن هذه الأوساط تطالب بإصرار ولهفة بمعرفة مصير هذين الديوانين اللذين كانا مخفيين بدون سبب وجيه طوال 22 عاما من رحيل البردوني، ولا يعرف الناس مصيرهما.
لكن نقطة الانتحال والدس فيهما تظل محل نظر. وهي فرضية معقولة في كل حال، وتحتاج لنوع من التحقق المنهجي، وقد خطرت في بالي أول ما طبع الديوانان، لكن. وفضلا عن خبرتي بلغة وأساليب هذا الشاعر الذي قرأت كل أعماله الشعرية مرارا وتكرارا وكتبت عنها كثيرا، وخصصت رسالتي للماجستير لدراستها.. فقد تحققت من صحة هذين الديوانين على ضوء عدة أشياء:
أولاً: بعضٌ من أهم قصائد هذين الديوانين كان قد تم تسريبها مسبقا إلى الصحافة الثقافية، ونشرها في الملاحق الأدبية: حيث بإشراف الشاعر "عبد المجيد التركي" تفرد الملحق الثقافي لصحيفة "اليمن اليوم" بنشر قصيدة "ابن من شاب قرناها" لأول مرة، كما كان الشاعر محمد القعود يقوم بين فترة وأخرى بنشر قصائد لم تنشر سابقاّ للبردوني، في ملحق "الثورة الثقافي".
ثانيا: اطلعت على بعض قصائد هذين الديوانين قبل سنوات من خلال نسخة في حوزة الصديق الشاعر "كمال البرتاني" الذي وصلت إليه النسخة عندما كان يشغل وظيفة مدير مكتب الثقافة بأمانة العاصمة في عهد الوزير الرويشان.
يعني هذا أن الديوانين كانا موجودين في حوزة كثير من الأشخاص والجهات في اليمن. وفي الواقع ما زالا موجودين في حوزة هذه الأشخاص والجهات، وللدقة أريد أن أؤكد هنا على بعض النقاط ذات العلاقة:
في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة للبردوني، طبعة صنعاء عاصمة الثقافة 2004. ورد بقلم الأستاذ خالد الرويشان، وزير الثقافة الأسبق أن هاذين الديوانين كانا قد أصبحا في حوزة الوزارة وجاهزين للطبع عندما قامت وزارته بإصدار هذه الطبعة التي تضم 12 ديوانا، لكنه أرجأ طباعتهما كي يأخذا حقهما من الاحتفاء ثم يتم طباعتهما في الطبعات اللاحقة.!
لاحقاً، وخلال حفل عام لوزارة الثقافة في عهد الوزير "عوبل". حضره بعض أقرباء الشاعر وغطته وسائل الإعلام، تم الإعلان عن كون هذين الديوانين قد أصبحا في حوزة وزارة الثقافة التي تكفلت بطباعتهما حينها 2012م.
من جهة ثالثة. كان في حوزة "مؤسسة العفيف الثقافية"، نسخة من الديوانين تسلمتهما بعد وفاة البردوني مباشرة عبر تفاصيل وملابسات وضحها "علوان الجيلاني" أحد المسئولين في اتحاد الأدباء اليمنيين، وحسب قوله فإن المؤسسة كانت على وشك طباعتهما، وأنه تكفل شخصيا بمراجعتهما، غير أن الأستاذ "أحمد جابر عفيف" صاحب المؤسسة تلقى تهديدا شديد اللهجة من جهة مجهولة بإغلاق المؤسسة إذا فكر بطباعة الديوانين.!
ثمّ كان هناك أكثر من شخص يملك نسخا مصورة من هذين الديوانين، وإجمالا. لم تتم طباعة هذين الديوانين خلال أكثر من عقدين، في ظل ترقب وتساؤل عام متواصل عن إخفائهما القسري.!
فقط. عندما بادر الحوثي برعاية طباعتهما. قوبلت هذه المبادرة في حينها، وما تزال تواجه حتى اليوم، بانتقادات واسعة من قبل بعض الهواة والمثقفين والنقاد، انصب بعضها للتشكيك في صحة نسبة بعض ما تضمنه هذان الديوانان.!
للتهمة دوافع سياسية واضحة، كنوع خطر من المناكفات الفارغة، وفي الواقع استندت طباعة الديوانين في ظل سلطة الأمر الواقع في صنعاء، على نسخة كانت في حوزة "محمد الشاطبي" كاتب البردوني، وأحد أقرب المقربين منه، وقد احتفظ بنسخة أصلية منهما منذ وفاة البردوني، وظل محتفظا بها طوال فترة خلاف أسرة البردوني على حقوق هذا الإرث.
عندما مات محمد الشاطبي بدوره، وصلت النسخة إلى يد نجله الأكبر خالد الشاطبي، وحسب قول "عبد الرحمن مراد" في مقدمة الديوانين، فقد تسلمت "الهيئة العامة للكتاب" النسخة منه، بحضور ورثة البردوني منهم: ابن شقيقه "عبده البردوني"، ونجله "محمد عبده البردوني"، ثم تمت طباعة العمل، بتنفيذ وإشراف لجنة محترفة تم تشكيلها من قيادات ورموز المشهد الثقافي، للمراجعة والتدقيق وضبط النصوص المطبوعة تألفت من: عبد الرحمن مراد. وهو رئيس الهيئة العامة للكتاب، رئيسا. وعضوية آخرين منهم: عبد الإله القدسي. (أحد كتاب البردوني)، ومحمد القعود. رئيس فرع أدباء صنعاء، والدكتور جميل مفرح. نائب رئيس أدباء صنعاء وغيرهم.
وبالتالي فإن دس قصائد أو أبيات في الديوانين، أو تحريفهما بأي قدر أو شكل، شيء صعب للغاية، ويمكن كشفه بسهولة من خلال تلك النسخ التي لا زالت في حوزة أولئك الأشخاص وتلك الجهات المعترضة، منهم على سبيل المثال خالد الرويشان.
أما في ما يتعلق بموقف وزارة الثقافة التابعة للشرعية، من طباعة الجماعة الحوثية لهذين الديوانين، فهو مؤسف، والأفضل لأنصار جبهة الشرعية من المناكفة لو حثوا هذه الوزارة بإصدار طبعة محققة بشكل مهني للديوانين، ثم المبادرة بطباعة بقية الأعمال غير المطبوعة للبردوني، وهي كثيرة، قبل أن تقوم الجماعة الحوثية بطباعتها، وتسجيل المزيد من الأهداف لصالحها على حساب حكومة الشرعية.