د. صادق القاضي
البردوني.. بين معايير الفن وأكاذيب السياسة!
قدر الأنبياء أن تتم خيانتهم..
قدر الفرسان أن يُطعنوا من الخلف..
قدر العباقرة أن يُساء استخدام إبداعاتهم..
الشاعر اليمني العربي الكبير "عبد الله البردوني" هو كل المغدور بهم أعلاه، وقدره التعيس، أن يرقص كل السفلة والخونة على قبره.. خاصة في مناسبات ذكرى وفاته.!
- رجال سياسة: مارسوا الإعدام أو الإخفاء القسري على أعماله الشعرية والروائية وغيرها، ويقولون ما لا يفعلون.!
- إعلاميون ومثقفون: قاموا بخيانة المواقف والمضامين الفكرية والسياسية، القومية والوطنية في أعماله، وباتوا تجار مواقف، في كل واد يهيمون وراء العرض والطلب.!
- مقاولو ثقافة: قاموا، عمداً أحياناً، وإهمالاً كثيراً، بتشويه أعماله الشعرية بكل أشكال العيوب والأخطاء النسخية والإملائية والمطبعية.!
- شعراء بلا أصوات ولا ملامح، انتحلوا صوته وملامحه لكتابتهم الشعرية.
- أشخاص لا علاقة لهم بالشعر، كتبوا خزعبلات تنبؤية ونسبوها إليه.!
ثم، أخيراً، لا آخراً. أشخاص لا علاقة لهم بالنقد ولا حتى بالفهم والتذوق.. يقومون بتفسير وتأويل أشعاره بشكل انتقائي تعسفي، بما يخدم أيديولوجياتهم وجماعاتهم ومشاريعهم وحروبهم العابرة، كالقول إن الشاعر العربي اليمني الكبير "عبد الله البردّوني" كان زيديًا، بشكل طائفي. استنادا على استخدامه لمفردات مثل الحسين وكربلاء..!
هذا كلامٌ سخيف.. لا يستحق الرد. إذ يمكن لأي مهتم ملاحظة أن استخدام البردوني لهذه المفردات تمّ بشكل رمزي قام به أيضاً شعراء آخرون كبار عرب وأجانب مثل نزار قباني وأدونيس، وحتى الشاعر الفرنسي لويس أراغون في عمله الرائع "مجنون إلسا".
أسخف من ذلك. القول إن البردوني كان يؤمن بفكرة "المهدي المنتظر". نعم، كان البردوني مولعاً بفكرة البطل الموعود والمخلص المنتظر، والمنقذ القادم.. واشتغل عليها في الكثير من قصائده، كما اشتغل عليها شعراء كبار غيره، لكنهم جميعا كانوا يبحثون عن الخلاص في المستقبل لا الماضي، وبشكل استشرافي لا يتعلق أبداً بالعقائد التقليدية للشيعة والسنة عن "المهدي المنتظر".
البردوني شاعر عظيم يمتلك رؤية كونية متجاوزة للمفاهيم والتصورات القرسطية، ومتعالية عن التشيؤات والتحيزات العقائدية، وأكبر من أن يتم حشره في صراع المذاهب، وتوظيف شعره في حروب الطوائف، بخلاف ما يحلو لبعض المسيسين تنميطه وتوظيفه في الصراعات اليمنية الراهنة.
على فصائل الإسلام السياسي المتبنية لنظريات شمولية غابرة مثل "الإمامة أو الخلافة" إدراك هذه النقطة جيداً. ليس من الحكمة توظيف هذا التنويري الكبير في خدمة أيديولوجيات ظلامية. "الحسين" بالنسبة للبردوني وغيره من شعراء الحداثة ثائر مستقبلي مناهض لكل أشكال القهر والاستلاب والعنصرية والكهنوت.. لا درويش يدعو لتقبيل أقدام المومياوات العائدة المتألهة.!
كان البردوني جمهورياً حتى العظم، وقومياً حتى النخاع، ويسارياً بشكل عام.. لكنه لم يكن منتمياً لحزب محدد، أو تيار تنظيمي معين، وظل كذلك مستقلاً سياسياً حتى النفس الأخير.. هذا الرجل كان بذاته وبشعبيته ورؤاه.. بمثابة حزب كبير، وإن لم يُدرج اسمه في قائمة الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمنية.
على أن أعظم ما في البردوني هو فنه الشعري، ومن زاوية الفن. لا خلاف حول العبقرية الشعرية الفذة لهذا الشاعر الكبير. وسوى ذلك، لا يهمني ما قاله في قصائده، لا تهمني مطلقاً: أفكاره وآراؤه السياسية والأيديولوجية، مواقفه من الإمامة أو الجمهورية.. هي أشياء تخصه، وهو فيها لا يختلف عن أي مثقف عادي.. ما يميز البردوني هو نبوغه الشعري، وبراعته في التعبير عن مشاعره وأفكاره.. ما يميز الشاعر ليس موقفه من الله أو الشيطان، بل عبقريته في التعبير عنهما.