في زيارتنا لتعز وجدت ما يصعب تخيله أن يحدث باليمن.
لا يمكن أن تشرح الصورة واقع المعاناة ولا يمكن للكتابة أن تعطي المأساة حقها.
حين شاهدت الناس مكتظة في منطقة صغيرة محاصرة ومن حولها شوارع مقطعة قيل لنا هناك قناص لعبدالملك الحوثي، ومن هنا لا يمكنك بلوغه فهناك قناص حوثي آخر، وكومة تراب أو توائر تفصلك من المضي فهناك قناص.
حاولت أن أزور بيت عمي -طبعا قد دمرته الحرب، وصلنا إلى منطقة هي الأخرى مقطوعة بفعل قناص حوثي آخر.
في انطباعي الشخصي الأول تذكرت أنشودة "سرايفو".
وبالأمس ونحن نناقش مع مؤسسة مياه تعز لتنفيذ مشروع آبار مياه حقل طالوق ذكر المهندسون أن الحوثيين قطعوا إمدادات المياه من مناطق سيطرتهم والتي كانت تغذي المدينة وتحل جزءا من المعاناة.
وقتها تذكرت أنشودة "قطعوا علينا الكهرباء والميه وانتي غايبه.. أمي أمي أمي"، وتخيلته مواطنا يناشد عودة أمه الدولة.
التجول بالمدينة بشوارعها المغلقة، كنت أشاهد في خيالي باصات أهالي دماج وهم يغادرون بيوتهم تحت نظر كل اليمنيين، يومها كتبت أن هذا المشهد الذي لا يمكن ليمني أن يحرك ساكنا، مجرد الفرجة لمأساة تصنع أمامهم دون كلمة للشعب أو أي تلويح بالرفض، وأعني بالرفض الرفض الإنساني المتجرد من أي تبرير يخلقه النزق الشيطاني أمام الجريمة، سندفع ثمنه كلنا.
ما يحدث في تعز أسوأ مما قد يمكن تخيله ومن كل ما قد قيل في مخيمات اللاجئين.
ناس نازحة داخل مدينتها ويقف بينها وحياتها الطبيعية عبدالملك الحوثي وضمير اليمنيين الميت.
كيمني وأنت تسمع عن سلام وحوارات دون اعتبار لأم الكوارث الحاصلة في تعز، هي لا تنتظر إحسانا أو تعاطفا فقد دفعت الثمن، إنما إنسانية اليمنيين هي من تحتاج إلى تعاطف.
لا يمكن هنا أن تخاطب شخصا مواليا لجماعة أو مليشيا أن يتخلى عن ما يعتقد أنه قيمة، لكن أن تسلخه جماعته من قيمه الإنسانية تجاه تراب أرضه والبشر الذين عليها، وقتها يجب أن يعيد الفرد الموالي النظر إلى أي مسخ يصنع منه عبدالملك.
كل ما قيل وأنشد وزومل فيها لفلسطين ومخيمات الشتات وسرايفو وما إلى هنالك من زوامل الشحن الإسلامي حدث في تعز أفظع منه أمام أعين اليمنيين.
كشخص وقف مع أي طرف بالحرب، عندما يعرض السلام لا تقبل بسلام ينتقص من كرامة كل يمني.
رفع القيود عن مطار صنعاء وميناء الحديدة لم تكن محل شيطنة أي إنسان في المناطق المحررة، خصوصا وقيادة مليشيا الحرب تتنقل بحرية وتمارس تجارة أسواقها السوداء بلا مضايقة من أحد.
كذلك تعز يجب أن تكون قضية كل يمني ليس لأجل ابن تعز فقط، ولكن لوضع حد أخلاقي لك أنت في أي مكان، ويجب أن يكون الوعي العام مع كل إنسان.
لو وضعنا حدا للقيم اليمنية أول ما قطعت الكهرباء ولم نقبل كيمنيين أن تدفع أزمة سياسية بخسارتنا للكهرباء شريان حياة البشرية لما حدث بعد ذلك كل التنازلات من الديمقراطية والخدمات والرواتب ثم إلى شوارع التنقل الرئيسية المقطعة.
أين هي قيم حدودنا الأخلاقية أمام آدميتنا كبشر وإلى أي قدر يستطيع الخطاب العام والنخب إعادة حدود لا يمكن تجاوزها ضد الناس في مناطق الخصم.
شمالنا ممزق كضميرنا، وتعز بوابة الضمير الإنساني اليمني.
من يساوره أي تبرير أقول حاول زيارة المدينة لتشاهد ما لا يمكنك تخيله في مدينة تنحر لأجل عبدالملك الحوثي، يشبع أحقاده ليس في أبناء تلك المدينة، وإنما في سلخ ضمير كل يمني قبل إجرامه في حق تعز.
قد يكون سلوك بعض أفرادها وجزء من نخبها زرع بعض المناكفات، لكن هذه المناكفات التي تدعو الشمال لغض الطرف عن جزء رئيسي من جسده إنما هي دعوه لغض النظر عنك كيمني أينما كنت وأيا كان انتماؤك.
تعز اختبار حقيقي لإنسانية اليمنيين وفطرتهم.
وإلى أي مدى تمكن عبدالملك الحوثي بغرس بذرته الشيطانية في روح الناس، تعز بوابة الضمير اليمني.
القبول بأي تسوية غير إنسانية لتعز هو تفريط كل يمني على تسوية بكرامة منتقصة وإرادة مسلوبة له في كل مكان.
هذه المدينة لسان ضميرك مع نفسك إما حي وإما دون ذلك.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك