د. ياسين سعيد نعمان
السلام حينما يكون خياراً وحيداً للخصم
اليمن أمام معادلة مختلة، هي ما أسفرت عنه حرب استمرت تسع سنوات حتى الآن، وتوقفت، مرحلياً، عند نقطة لا حرب ولا سلام.
عند هذه النقطة أعلن المبعوث الأممي منذ أيام توصُّل "طرفي المعادلة" إلى خارطة طريق تنهي الحرب ويتوصل اليمنيون بموجبها إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة. وأشار إلى أن إعلان هذه الخارطة يأتي عقب لقائه بممثل جماعة الحوثي المقيم في مسقط، وبرئيس مجلس القيادة الرئاسي.
عقب هذا الإعلان بادرت الحكومة اليمنية إلى الترحيب به، في خطوة قرئت من قبل الكثيرين على أنها منسجمة مع سعيها الدائم، والقوى السياسية المنضوية تحت لواء الدولة المقاوم للانقلاب الحوثي، نحو السلام. تبع ترحيب الحكومة اليمنية بإعلان المبعوث مباركة كثير من الدول العربية منها دول مجلس التعاون الخليجي، والعراق، والجامعة العربية وغيرها. لكن جماعة الحوثي صمتت، ثم راحت تسرب موقفها من الإعلان عبر تصريحات نسبت لبعض عناصر الجماعة من مواقع مختلفة تشي جميعها بأن ما جاء في هذا الاتفاق لا يعنيها في شيء، وأنها في الوقت الحاضر مشغولة بقضية أهم وأكبر، وزادت بعض التصريحات بالقول إن الإعلان هدفه تشتيت جهد الجبهات في الاستعدادات الجارية لاستكمال تحرير ما تبقى من اليمن.
صمْتُ الحوثي جاء متوافقاً مع الصمت الإيراني. والصمت الإيراني يشكل هنا علة صمت الحوثي الذي كان قد وافق على الخارطة كما عرضها المبعوث على جماعة الحوثي.
وإذا كنا قد فهمنا حتى الآن سبب صمت الحوثي باعتباره تلبية لرغبة إيرانية، فإن السؤال هو لماذا ترفض إيران حتى اللحظة التعبير عن أي موقف تجاه هذا الإعلان وهي التي قالت كثير من وسائل الإعلام التي تدور في فلكها إنها أبلغت جماعة الحوثي أثناء زيارة وزير خارجيتها لسفارة الجماعة في طهران الشهر الماضي موقفها الإيجابي من جهود المبعوث الأممي بخصوص عملية السلام في اليمن، وتبع ذلك لقاء سعودي -إيراني - صيني تم فيه استعراض مجمل التطورات الناشئة عن اتفاق التعاون بين البلدين الجارين السعودي والإيراني.
تدرك إيران جيداً أن انخراط جماعة الحوثي في عملية السلام، قبل أن تستكمل هي بناء محددات أمنها القومي في ظل الظروف المتحركة القائمة والمنشئة لاحتمالات توسيع الحرب في المنطقة، سيرتب خيارات تتناقض كلياً أو جزئياً مع ترتيباتها القائمة على تشغيل وكلائها، وخاصة الحوثيين في معركة خلط الأوراق حيث يجري تدمير غزة كجزء من حماية النظام الإيراني عبر تفريغ شحنات المواجهة المخططة مع الخارج والداخل على السواء، وهذه المعركة من وجهة نظر أمن إيران القومي مقدمة على أي توافقات سلام وطنية سواء في اليمن أو في غيرها، ولا غرابة في هذا السياق أن نسمع أحد قادة الحرس الثوري الإيراني يقول بأن "طوفان الأقصى" هي "عملية انتقام لمقتل سليماني"، الأمر الذي ردت عليه حماس بالتكذيب.
نجد إيران إذاً ترهن عملية السلام في اليمن لأولويات أمنها القومي. وباعتبار أن الحوثي يمثل عنصراً مهماً في منظومة أمنها القومي، على الأقل من الناحية التي يصبح فيها صوتاً يعلن مسئوليته عن الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي تنطلق من صنعاء نحو البحر الأحمر لإغلاقه كممر ملاحي دولي هام، أو نحو إسرائيل كما يقول الحوثي في بياناته، في حين أن الجميع يتساءل أنه إذا كان الهدف فعلاً نصرة غزة فلماذا تطلق الصواريخ والمسيرات الإيرانية من صنعاء التي تبعد عن الهدف أكثر من 2500 كم في حين أنها لا تبعد أكثر من 1200 كم عن إيران وأقل من ذلك بكثير عن وكلاء آخرين. الجواب هو أن إطلاق الصواريخ من اليمن لا يعني أكثر من إعلان مشاركة فارغة المحتوى، ولا ترتب أي مواجهات عسكرية مع العدو، في حين أنها تحدث أثراً نفسياً عند عامة الناس يمجد الفعل بغض النظر عن تأثيره في معادلة الصراع. أما اعتراض السفن وتفجيرها في البحر الأحمر فنتائجها كارثية على السيادة البحرية للدول المطلة على البحر الأحمر، وهذا ما كانت تخطط له إيران من زمن طويل، وكلنا يتذكر كيف سارع الحوثيون فور استيلائهم على صنعاء الذهاب فوراً إلى الحديدة ووضع يدهم عليها، وكيف أنهم عام 2018 لجأوا إلى الاستغاثة والتهديد بتفجير ميناء الحديدة، وطالبوا بوقف فوري للحرب، والموافقة على اتفاق استوكهولم الذي يقضي بانسحابهم من الحديدة بدون شروط حينما كان الميناء على وشك السقوط بيد الحكومة الشرعية. ولنتذكر معاً في هذا السياق التحذير الذي أصدره وزير الدفاع الإيراني محمد رضا اشتياني للولايات المتحدة الامريكية يوم 14 ديسمبر 2023 من أن أمريكا ستواجه مشكلات استثنائية اذا ما قامت بتشكيل قوة حماية دولية للملاحة في البحر الأحمر، وقال "إنه لا يمكن لأحد التحرك في منطقة، اليد العلياء فيها لإيران".
يتضح من كل هذا أن السلام في اليمن عملية تتداخل مع ما بات يفرضه الأمن القومي الإيراني من ثوابت ومتغيرات لن يسمح لها، كما يقول وزير دافعها، أن تغير واقع منطقة، اليد العلياء فيها لإيران، وتغطي البحر الأحمر وخليج عدن.
وإذا كان الأمر كذلك، فهل لنا أن نتحدث بعد اليوم عن سلام يتم فيه تجاهل هذا التشابك بينه وبين الأمن القومي الإيراني والذي لم يعد في حاجة إلى مزيد من الشرح والإثبات بل إلى التفكير في كيفية مواجهته.
لقد أمضينا سنين في الشرح، في حين تولت إيران ووكيلها الحوثي في اليمن إثبات هذه الحقيقة بصورة سريالية لم تخطر على بال، وكأننا في مسرح للعرائس لا يلبث فيه محرك العرائس أن يظهر من خلف الستارة مستعرضاً مهاراته غير مدرك أن ظهوره لا يقدم أي دليل على أن المشاهد كان يغفل وجوده.
لكن إثبات حقيقة هذا التشابك بين السلام في اليمن ومتطلبات الأمن القومي الإيراني من قبل إيران والحوثي، يعني فيما يعنيه أن المسألة باتت معطى يجب عدم إغفاله عند أي ترتيبات سياسية وإلا فإن الحرب التي تفرون منها لن تنتهي إلى السلام الذي تتحدثون عنه. وكأنهم يقولون إن السلام ليس من الرغائب التي تأتي حسب الطلب، لكنه من نتائج تلك الحروب التي تجعله خياراً وحيداً للخصم.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك