انتهت شهور عسل المتاجرة بأحداث غزة سريعا بعد دخول حماس في معمعة المفاوضات على هدنة مُهانة ومخنوقة بالشروط الإسرائيلية الصارمة، بالتوازي مع استقرار الوضع على دمار وخراب لا مثيل لهما، ودون أن يثني حكومة الحرب الإسرائيلية عن الاستمرار بتنفيذ مخططاتها في الهيمنة على المزيد من المناطق الفلسطينية.
وبنفس الكيفية التي حاولت بها الميليشيات المنضوية تحت هذا المحور، الاستثمار في أسهم القضية الفلسطينية، دخلت الحركة الحوثية على الخط، ومن أوسع الأبواب.
كانت مغامراتها في البحر الأحمر هي الأكثر جرأة وتهورا من بين كل ردات فعل الجماعات التي ترعاها إيران في المنطقة. وبالإضافة إلى محاولة حفظ ماء وجه محور مقاومة، بدا أنه لا يُقاوم في ساعة العسرة، مِما عرّضه لموسم تعرية عاصف. لم يتردد الحوثيون بالاصطياد في أحداث غزة من خلال هجمات تخريبية لتحقيق جملة أهداف تبدو بوضوح أنها تتكامل في مسار منتظم لخدمة مشروع أو هدف أكبر، تمثلّت هذه الأهداف بالآتي: الأول إبعاد الأنظار عن حزب الله اللبناني الذي يُعتبر أهم أداة للمشروع الإيراني في المنطقة وخط دفاعه الأول بعدما كان هدفا محتملا للضرب، والثاني رفع شعبية ميليشيا الحوثي التي كانت تمر بأسوأ مراحلها؛ بعد استخدامها تبعات الهجمات على خط الملاحة الدولي كورقة ضغط كبيرة في سبيل تعزيز مكاسبها على طاولة المفاوضات اليمنية؛ والهدف الآخر هو منح إيران تأثيرا أكبر في المنطقة مما يُعزز مكاسبها هي الأخرى على طاولة أي مفاوضات تتعلق بإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط.. وكل ذلك سيصب في نهاية المطاف في صالح شبكة المحور الإيراني على امتداد المنطقة!
ومنذ اندلاع أحداث غزة حَرَص الحوثيون على تصدير خطاب يحاول التركيز على ما يدور في فلسطين، مجترحين نوعا من التهدئة (الكلامية) حيال الوضع في الداخل اليمني وارتباطاته بالأطراف المحلية والإقليمية، عدا عن تلك الرسائل / الاتهامات لخصومهم التي كانوا لا يتورعون عن تمريرها في كل مناسبة تحت تهمة “التصهين” وموالاة العدو الإسرائيلي. ومع أن آلة العنف الحوثية لم تتوقف عن ارتكاب أبشع أنواع الانتهاكات طيلة هذه الفترة في حق المواطنين القاطنين في مناطق سيطرتها، فضلا عن عشرات القتلى مِمن سقطوا جراء استهدافها لمواقع خصومها، أشار المبعوث الأممي في إحاطة له في شهر فبراير عن تلقيه تأكيدات من جميع الأطراف اليمنية عن التزامها المضي في مسار السلام!
في نهاية شهر مارس، وبعد إدراج الإدارة الأميركية الحوثيين في قائمة الجماعات الإرهابية حدث تحول ملحوظ في الخطاب الحوثي عاد فيه الملف اليمني إلى أن يأخذ حيزا أكبر. انتهز قائد الجماعة عبدالملك الحوثي الذكرى التاسعة لانطلاق عاصفة الحزم لتوجيه الاتهامات للسعودية والإمارات بالمماطلة الواضحة في استحقاقات السلام، والتي تتضمن على حد وصفه “إنهاء الحصار والعدوان والاحتلال، وإعادة الإعمار وتعويض الأضرار”. كما لم يفوّت مهدي المشاط (الرئيس المُعيّن من قِبل الحوثيين) المناسبة ذاتها لمطالبة دول التحالف بالمضي قدماً في مسار “إحلال السلام المستدام”، مؤكداّ بأن اليمن لا يُمثِّل خطرا على أحد.
قبل أحداث غزة كان الحوثي يعيش في أزمة اقتصادية خانقة، وقد تهيأ له بأن مغامرته الخطرة في البحر الأحمر على هامش أحداث غزة ستوفر له الفرصة السانحة ليضرب عصفورين بحجر واحد: إلهاء الناس عن احتياجاتهم الأساسية والحصول على أكبر قدر من المكاسب على طاولة المفاوضات اليمنية، لكن هذه الأحلام الكبيرة التي راودت خيال الحوثيين سرعان ما عصف بها قرار إدراجهم في قائمة الجماعات الإرهابية الأميركية، وتغيّر النظرة الدولية تجاههم بعد تسببهم في أزمة اقتصادية عالمية.
كان يُفترض أن يتوجه حديث الحوثيين عن السلام إلى خصومهم المحليين كونهم المعني الأول بذلك، لكن لأن الحوثي يرى كل خصومه عبارة عن مجموعة من المرتزقة والعملاء، من جهة، ومن جهة أخرى لأن اتفاقية السلام التي جرى التوافق عليها قبل أحداث غزة ضمنت له التزاما سعوديا بدفع رواتب الموظفين ودعما ماليا مقابل موافقته، كان خطابه موجها فقط إلى دول التحالف، وحديثه عن السلام هنا يعني فيه فقط سوى سرعة إسعافه من الورطة الاقتصادية.
في العشرين من أبريل الماضي، اتهم عبدالملك الحوثي كلاّ من دولتي السعودية والإمارات بـ“إزالة آيات قرآنية وأحاديث نبوية من المناهج الدراسية لأنها تعيق التطبيع، وكذلك إعادة تفسير معاني آيات وأحاديث لإرضاء العدو الصهيوني” زاعما أن هذه المناهج باتت تتحدث بـ“ودّ وإعجاب عن العدو الصهيوني وتربي أطفالها على أن يكونوا متقبلين للإسرائيليين كأصدقاء وشركاء في هذه الحياة”. ومع أنه لم يُشر إلى أي مصدر أو معلومات عن المناهج القديمة والحديثة، وما هي المواضع التي جرى تغييرها في هذه المناهج، كانت واضحة محاولته تمرير بعض الأكاذيب مستغلا الجو العام في المنطقة، وبعد انتظار طويل، ليستخدمها كلعبة من ألعاب الابتزاز التي يجيدونها تماما، والهدف الوحيد ليس مستقبل القضية الفلسطينية بكل تأكيد، وإنما استدراك ما يبدو أنه قد أضاعه في “صفقة السلام”!
ارتفعت وتيرة التهديدات باللجوء إلى التصعيد في أحاديث المسؤولين الحوثيين خلال الفترة الأخيرة، وبشكلٍ لافتٍ، مع تراجع الاهتمام بما يدور في فلسطين، وتراجع عملياتهم في البحر الأحمر. وقبل بضعة أيام ظهر رئيس الوزراء الحوثي في صورة تجمعه بمسؤولين آخرين يرتدون ملابس مدنية بينما كانوا يقومون بتنفيذ تدريبات على الأسلحة، وهي صورة حملت دلالات كثيرة.
لا يهدأ الحوثي في جبهة حتى يفتح أخرى مباشرة، وأكثر اشتعالا. ولا يتوقف عن دور حتى يمارس دورا أكثر تهورا وكارثية من سابقه. العنف المحض أفقه الوحيد، والجميع بات ينتظر مغامرته القادمة!
*نقلا عن جريدة العرب