اعتمدت المقاربة الأممية للأزمة اليمنية طيلة السنوات العشر الماضية على رؤية بُنيت في أساسها على سيرورة ما سُمّي بـ“الربيع العربي”، فقد نُظر إلى هذه الزلازل السياسية التي ضربت أساسات دول منطقة الشرق الأوسط، كجزء أصيل من التحول نحو “جنّة الديمقراطية” المُبشر بها. ولأن تصورات المؤسسات الدولية وقراراتها ما زالت تخضع للدول التي ترى في “الديمقراطية” أيديولوجية الأيديولوجيات دون النظر إلى طبيعة الواقع في دول العالم وتطوراته المختلفة، وبالتالي فالحق –من وجهة النظر هذه– يقف دائما وبالضرورة مع كل الجماعات التي ترفع شعار الديمقراطية حتى وإن كانت هذه الجماعات تقف فكراً وسلوكاً، وعلى نحوٍ مبدئي، ليس ضد التعدد فحسب، ولكن ضد فكرة الدولة الوطنية بشكلها الحديث الذي يؤسس أرضية قابلة لنمو التسامح بين فئات وطوائف المجتمع المختلفة ويوفر متطلبات التنمية، ولو في الحد الأدنى، كما تطور هذا النموذج من الدولة خلال القرون الماضية.
استغلت جماعات الإسلام السياسي –بشقيها السني والشيعي– هذه التحولات المرعبة في الدول العربية لتُقدِّم نفسها كحاملة لمشروع الديمقراطية، وهي جماعات معادية في أيديولوجيتها للدولة الوطنية الحديثة نتيجة غَيْرِيَّتِهَا الثقافية، أي باعتبارها دولة تقوم فيها فكرة المواطنة بعيدا عن المعتقد الديني، وكما لاحظ ذلك عالم السياسة البارز والبروفيسور في جامعة كاليفورنيا نزيه نصيف الأيوبي، ومنذ وقتٍ مُبكر، في كتابه المرجعي “تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط”. ولأن هذه الجماعات حاولت التدثر بالديمقراطية، فقد تم التغاضي كليا عن طبيعة فكرها الأيديولوجي ونموذجها المُؤسِّس للتخلف والتوحش، وكذلك عن أدوارها التخريبية. وعوضا عن ذلك تم توجيه كل النقد واللوم للدول التي رأت في أن استقرار الدول وتماسك مؤسساتها يجب أن يأتي في المرتبة الأولى وفوق كل اعتبار خصوصا في ظل التحولات العالمية الكبيرة، وسيولة النظام الدولي على وقع أزمات باتت من الصعوبة إدارتها / محاصرتها، واستغلال دول إقليمية لكل هذه الظروف والشروط للاستثمار في كومة الخراب المكدسة من الخليج إلى المحيط باعتبارها أهم فرصة لاحت للتفاوض مع القوى الدولية في سبيل ضمان مكانة أكبر في أي نظام إقليمي/ دولي قادم.
كان الملف اليمني واحدا من أعقد الملفات وأكثرها غموضا والتباسا في المنطقة. فمع إجبار علي عبدالله صالح على تسليم السلطة لنائبه بموجب المبادرة الخليجية، تم إطلاق “مؤتمر الحوار الوطني” برعاية أممية، وبتوافق دولي قل نظيره، تحت حماية أمنية فارهة بصناعة مثالٍ نموذجيٍّ للتغيير في دول “الربيع العربي” قائم على الحوار والتفاهم. ولأن أهل مكّة أدرى بشعابها، فضلاً عن التلاعب في تمثيل الجنوب في مؤتمر الحوار، فقد كنّا نستغرب كثيراً من المبالغة في الترويج الإيجابي لهذه العملية الانتقالية الهشة جدا في الإعلام الخارجي وبيانات المؤسسات الدولية، وتصويرها وكأنها عصا سحرية لصناعة الاستقرار والتنمية بأيادي القوى التي مارست عبثاً طويلاً في مقدرات هذا البلد!
لم يكد شَمْل وثائق مؤتمر الحوار يلتئم وبعد قرابة العامين من الحوارات الماراثونية الرسمية وبرعاية أممية ودولية قل نظيرها، حتى تمخض في نهاية المطاف عن منحدر شديد الخطورة والوعورة يعج بالفوضى والتوهان والتلاعب. كان الحوثي –أحد أبرز أطراف مؤتمر الحوار والذي مُنح حصة أكبر من حجمه يواصل الحوار تجاه صنعاء، ولكن هذه المرة بوسائله الخاصة عن طريق الميليشيات المسلحة. سرعان ما انعقدت له عُرى التحالف مع عدوه القديم الرئيس صالح لتسهيل دخول العاصمة التي كانت مُحاطة بعدد ضخم جدا من القوات العسكرية، والسيطرة عليها. وعلى نفس المنوال من الطريقة الغرائبية في سرعة تغيّر خارطة التحالفات بين القوى اليمنية، ذهبت أحزاب اللقاء المشترك التي مُنِحت حصة كبيرة في حكومة التوافق بعد عملية انتقال السلطة في 2012 إلى صعدة لإيجاد تسوية مع زعيم جماعة الحوثي. انتهز الحوثي وصالح هروب الرئيس عبدربه منصور هادي من الإقامة الجبرية في صنعاء إلى عدن لإعلان حرب شاملة هدفت إلى إحكام السيطرة التامة على البلاد، الأمر الذي قاومه الجنوبيون ممن كانوا يناضلون سلمياً منذ العام 1994 لاستعادة دولتهم ببسالة، وبدعم واسع من التحالف العربي.
منذ ذلك الحين، والمقاربة الأممية للملف اليمني بُنيت على فكرة أن هناك عدواناً خارجياً على اليمن تسبب بـ“أكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث” وفقاً للأمم المتحدة، وهذا يعني ضمن ما يعنيه أنه يمكن بناء سلام بين الأطراف اليمنية في حال توقف التدخل الخارجي، وأن الميليشيات الحوثية يمكن أن تكون إحدى روافع السلام والاستقرار في البلد… وهي مقاربة مخالفة تماماً للواقع، تم فيها غسل الحوثي بماء السلام الأممي، وتنزيهه عن جرائمه، باعتباره المُتسبب بالحرب وبالمأساة الإنسانية، وأبسط دليل نزوح ثلاثة ملايين يمني من المناطق التي يسيطر عليها. ويعود سبب تصويب السهام الأممية تجاه تدخل التحالف وشركائه وتصويرهم بمعيقي عملية السلام وبمهددي ركائز الاستقرار، من وجهة نظري، إلى ثلاثة أسباب:
أولا: إيجاد مبرر لفشل عملية الانتقال التي رعتها الأمم المتحدة بين 2012 -2014 بعدما تمت المبالغة في الترويج لها باعتبارها نموذجا فريداً من الانتقال السلمي على الرغم من أن كل الشروط والوقائع كانت تقول بعكس ذلك تماما.
ثانياً: مقاربة الملف اليمني من خلال الرؤية التي ترسبت من مخاض التحولات التي ضربت المنطقة بعد زلازل “الربيع العربي”، خصوصا وأن دول التحالف كان لها رأي مختلف تجاه ما جرى، وكما أشرنا في بداية المقال. أي تصفية حساب، ولكن بأثرٍ رجعي.
ثالثاً: تم تصوير الحراك الجنوبي السلمي الذي كان يُطالب بتمثيل عادل في فترة مؤتمر الحوار الوطني بأحد معرقلي السلام، وعند انخراطه في مقاومة الحوثي، كان يجري تصويره وكأنه أحد الأدوات التي يستخدمها الخارج لعرقلة السلام وزعزعة الاستقرار (والمفارقة المريعة في هذا المقام أن الحوثي لم يكف قط عن استخدام السلاح، ومنذ تأسيسه).
بإعادة النظر في المقاربة الأممية والدولية للأزمة اليمنية، يجد المتابع قدرا مهولا من التضليل وإعطاء صورة مغايرة تماما عن الواقع. لم يكف الحوثي يوما عن القتل والعنف وارتكاب أبشع الجرائم وتَحيّن أي فرصة للهجوم على مدن ومناطق تقع خارج سيطرته حتى في الفترة التي تُطلق عليه الأمم المتحدة “الهدنة / وقف إطلاق النار”.. ومع ذلك كانت الاتهامات والإدانات والضغوط تُوجّه إلى الأطراف الأخرى. بعد عمليات الحوثي في البحر الأحمر، استوعب كثيرون حول العالم حجم المخاطر الكبيرة التي تمثلها هذه الحركة الإرهابية على السلم والاستقرار ليس المحليين والإقليميين فحسب، ولكن أيضا الدوليين، وهذا بلا شك تحولٌ مهمٌ.
قال بيتر فالنستين وهو أحد أهم المختصين في قضايا تسوية النزاعات و يعتبر مرجعا مهما للمنظمات الدولية العاملة في حقل السلام بأن الوقاية الفاعلة من الصراعات يجب أن تبدأ بالسماح لآمالنا بالنمو من دون أن يُصاحبها أي عنف مُتعمد أو مُخطط له. فمتى يا تُرى تقف المقاربة الأممية بشكلٍ صحيحٍ على قدميها، بدلاً من كونها مقلوبة على رأسها، ورؤية عوامل وركائز السلام والاستقرار الحقيقية، وحتى لا تسمح بتحويل العنف الحوثي إلى نموذج يُحتذى عند التفكير بالحصول على المكاسب السياسية، مما يعني إفشاء حياة اليمنيين بالعنف والحروب المستدامة!
من صحيفة العرب الدولية