نزلت هزيمة يونيو 1967 كالصاعقة على الوطن العربي، فبحجم الوعود الكبيرة التي قطعتها الشعارات القومية المُحلِّقة في السماء، كانت النتائج والآثار المترتبة على هذه الهزيمة المباغتة والكاسحة في نفس الوقت عنيفة جدا، حولّت تطلعات الناس وأحلامهم، سواء الواقعية منها أو غير الواقعية إلى مجرد سراب باهت، وهشّمت مرتكزات الصلابة في الذات الفردية والجمعية على السواء. وقد دخل الإنسان العربي في دوامة مضنية من الأحداث والتحولات اختلطت فيها “الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة” على حد تعبير محمود درويش، فغدا مشدودا في هاوية تعقبها هاوية أكبر منها، وما زال يجني الثمار المرّة إلى هذه اللحظة.
في هذه المنحدرات شديدة الوعورة والخطورة، كانت الذات النهضوية المتوثبة تبهت أكثر مع مرور الوقت، وتنكسر كل محفزاتها ودوافعها الرصينة والواثقة لدخول العصر بقوة، فالهزيمة عنت أو جرى تصويرها على أنها عقاب قاس على اقتراف هذه الجرأة، ودخل بعدها الفكر العربي في أتون متاهات كثيرة، بحثا عن “ذات الأصالة” لعل وعسى يتم ابتكار “مئزر محتشم” لـمعاصرة استعصت على أن تحل. وهي اللحظة التي بدت مثالية لتيارات الإسلام السياسي، لتندفع كالسيول الجارفة في كل الاتجاهات حتى تملأ أكبر مساحة ممكنة من الفراغ الفكري والوجداني، فتُحْكِم هيمنتها على كل مسامات الواقع. وفي غضون سنوات قليلة، كانت -بنسختيها السنية والشيعيةـ أشبه بمشاريع مارشالية ضخمة، ولكن بنسخة تدميرية بحتة!
في هذا السياق المضطرب ظهر رجل الدين المثير للجدل عبدالمجيد الزنداني، الذي توفي قبل بضعة أيام وخلفت وفاته الكثير من ردود الأفعال، كما كانت حياته المثيرة للجدل. وُلدِ الزنداني لأسرة ميسورة الحال في شمال اليمن، استطاعت أن تُرسِله في بداية الخمسينات إلى عدن، المستعمرة البريطانية المزدهرة وقتها، للالتحاق بالدراسة النظامية. لاحقا انتقل إلى مصر لإكمال تعليمه المدرسي، وبعد حصوله على الثانوية العامة قرر دراسة تخصص الصيدلة في جامعة عين شمس وتركها بعد عامين بسبب تعثره في الدراسة. في مصر الخمسينات انخرط بقوة في شبكة تنظيم الإخوان وهو السبب الذي وقف وراء قرار طرده منها كما تُشير بعض المصادر. وفي مصر أيضا تعرّف على رموز قيادة ثورة 26 سبتمبر اليمنية وأقام مع بعضهم علاقات وثيقة أهّلته بعد عودته إلى تولّي مناصب كبيرة بداية من “نائب وزير الإرشاد العلمي والإعلام” في العام 1968 (من الجدير ذكره أن الزنداني لم يكن معارضا أو ثوريا ضد نظام الإمامة، وكان يكتب المدائح في الإمام في مناسبات مختلفة).
استخدم الزنداني مناصبه الحكومية لفرض الفكر الأصولي المتطرف، ومعارضة كل التشريعات / التوجهات المدنية، كما كان له تأثير كبير جدا على صياغة المناهج التعليمية للمدارس وإنشاء المعاهد الدينية. في السبعينات، وهي الفترة التي بلغت “موجة الصحوة” ذروتها، انتقل إلى السعودية تحت ذريعة “طلب العلوم الشرعية”. هناك اكتسب شهرة واسعة بعد إطلاق مشروعه “الإعجاز العلمي” وعلى إثر الحظوة الكبيرة التي حظي بها “المجاهدون” بعد تجنيدهم لقتال الشيوعية في أفغانستان.
تحتاج أدوار الزنداني إلى مجلدات للكتابة عنها، فشخص كان له كل هذا التأثير السلبي لا بد أن يحظى بدراسة عميقة ومستفيضة لجميع أدواره المختلفة، وللسياقات التي أنتجته. وبالنسبة إليّ لا يقل دوره عن دور زعيم القاعدة الأول أسامة بن لادن، وربما يتعداه، فالأخير كان مجرد أداة تنفيذية صلفة، على عكس الزنداني الذي لعب كآلة أيديولوجية ضخمة رَكِبت كل الموجات لتكريس خطاب أصولي متطرف، وليس من المبالغ أن ينعته الكثيرون بـ”الأب الروحي” لابن لادن!
على أنه ولضيق الوقت هنا سيتوقف المقال بإشارة سريعة إلى أهم دورين لعبهما الزنداني، وهما دوران متكاملان ويلخصان عمق المشروع الذي انهمك في تربيته وتأثيثه ورعايته حتى آخر يوم في حياته.
يتمثل الدور الأول بلعبه كـ“أب روحي” للجماعات المتطرفة. فعلاوة على قربه الشديد من قيادات هذه الجماعات، وذهابه إلى أفغانستان، واستقباله للكثير ممن أُطلق عليهم “المجاهدون العرب” بعد عودتهم، استند الزنداني في منهجه ومشروعه على ركيزتين أساسيتين: أفكار أصولية متطرفة ومسار إخواني حركي جمعتهما في نقطة ما القاعدة القطبية الشهيرة “كل المجتمع جاهلي” وبالتالي لا بد من العمل على إعادته إلى الإسلام القويم وفقا لنسختهم الخاصة جدا من الإسلام.
كانت التجربة في أفغانستان مجرد بروفة لتمرين هذه الجماعات في صراع أكسبهم السمعة والمشروعية، لكن العين الكبيرة لهم أو لنقل صُلب هذا المشروع هو تغيير المجتمعات العربية بالعنف والقوة وبغض النظر عن الشروط الواقعية، وكان لا بد لمشروع على هذا النحو أن ينتهي به المطاف في جوف كل هذه التنظيمات الإرهابية التي شهدناها طيلة العقود الأخيرة (بعد إعلان وفاة الزنداني، تكفل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بكتابة بيان نعي مؤثر عن الشيخ وأدواره المهمة)!
الدور الثاني يتكامل بتناسق مذهل مع الدور الأول وهدف إلى إكمال السيطرة التامة على وعي الناس في المجتمعات العربية والإسلامية من خلال محاولة احتكار دور “أوصياء العلم والمعرفة” وتوظيف هذا الحضور والتأثير في خدمة المشروع الكبير، وتمثل هذا الدور في ما سماه بـ“الإعجاز العلمي”. وفي سياق عربي متلبد ومنكسر حتى أخمصه حاول أن يبحث، على مستوى الصف الأول من نخبه، عن معاصرة في براثن وكهوف الأصالة وكما أشرنا في المقدمة، ولعل من الجدير الإشارة إليه هنا أنه ليس من الغريب أن يكون لجبال “تورا بورا” كل هذا الحضور الإعلامي والرمزي الكثيف خلال زمن طويل وبما يجاوز بكثير كل الحضور الذي حظيت به مؤسسات إنتاج المعرفة في العالم الإسلامي. تلقت الأجيال الشابة أفكار تيار “الإعجاز العلمي” بكثير من الترحاب والانبهار، بما جعل تأثيرها يصل إلى كثيرين خارج شبكات تيارات الإسلام السياسي.
كان المفكر السوري صادق جلال العظم ربما الوحيد الذي تنبه إلى خطورة الأجواء التي سادت بعد هزيمة 1967 فظهر كتابه “نقد الفكر الديني” بعد عام واحد فقط. وقد توقع العظم أن تحاول التيارات الدينية تطويع أيديولوجيتها والتنظير لها من خلال خطاب يظهر عليه الانتظام والتناسق والعقلانية مستفيدة من “ذهنية دينية” يطغى عليها التقبل العفوي والانتظام اللاشعوري.
وإذ من المهم اليوم الاستفادة من كل الجهود الأصيلة في نقد تركة هائلة خلفتها تيارات الإسلام السياسي، ينبغي القول هنا إن صادق العظم لم يكن ربما يدور بخلده أن تقوم مؤسسات إعلامية “شهيرة” بنشر مقالات مدح مبالغ فيه لرثاء الزنداني، ويتلقفها أتباعها بكل فرح، مع كل الأدوار التي لعبها، أو على الأقل: كذبة واحدة من كذباته الفاقعات والتي تتجاوز المئات في خزعبلات الإعجاز العلمي تجعل كل الشجر والحجر تحْمَر منها خجلا أشد من لون كوكب المريخ!
صحيفة العرب اللندنية