محمد العلائي
"الاعتراف" حاصل أخلاق وسياسات "التعارف"
في مذكراته "خمسون عاماً من الرمال المتحركة"، أشار الأستاذ محسن العيني إلى دور السعودية الفاعل في التأثير على سياسة عدد من الدول الكبرى والمنظمات العالمية باتجاه حجب الاعتراف عن النظام الجمهوري الناشىء في شمال اليمن في ستينيات القرن الماضي.
قال العيني إن الموقف السعودي حينها كان "أشبه بـ"الفيتو" وحق الاعتراض الذي تمارسه الدول الكبرى في مجلس الأمن.
فبسبب الموقف السعودي، لم تعترف بنا بريطانيا ولا فرنسا ولا إيران ولا تركيا ولا دول كثيرة في أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية وحتى في إفريقيا.
وبقيت المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة وغيرها والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، متحفظة في علاقاتها وتعاونها معنا".
هذه الفقرة وردت في سياق حديثه عن أهمية اعتراف السعودية بالجمهورية العربية اليمنية عام 1970م، وقد نبهتني إلى أن ما أسماه العيني بـ"الفيتو السعودي" هو اليوم -وكما أظهرت السنوات الماضية- أقوى وأوسع مما كان عليه في تلك الفترة.
في ذلك الحين، استطاع النظام الجمهوري الناشئ في صنعاء، ومنذ العام الأول، أن ينتزع على الأقل اعتراف ثلاث دول عظمى من أصل خمس، إلى جانب أغلبية الدول العربية، وكل ذلك جرى ضداً على الإرادة السعودية.
أما اليوم فـ"الفيتو السعودي" نجح في غلق كل منافذ الاعتراف الدولي على الحوثيين طيلة العشر سنوات الماضية، ما عدا طهران لا غير، ويمكنكم إضافة دمشق لو أردتم!
وفي ظني أن حجب الاعتراف الخارجي عن سلطة الحوثي بصنعاء لا يمكن تفسيره فقط بزيادة في قوة "الفيتو السعودي" على الصعيد العالمي، وإنما أيضاً بالاختلاف الجذري -من حيث القابلية للاعتراف- بين سلطة الجماعة في صنعاء اليوم وبين السلطة الجمهورية الوطنية في الستينيات من القرن الماضي، من حيث المشروع والعقيدة السياسية والتكوين والعواطف.
فالنظام الجمهوري من أول وهلة جعل من أولوياته الانفتاح والاتصال بالعالم وسعى إليه وعمل بمقتضياته بعد عقود من العزلة والكبت والانغلاق الإمامي.
في المقابل، فالزمرة الجاثمة اليوم على صنعاء هي من الناحية التاريخية امتداد أصيل لعقلية وثقافة العزلة والكبت والانغلاق. كل ما فيها يؤدي إلى الغُربة والوحشة لا إلى الألفة والتعارف: العقيدة والخطاب والسلوك، مع الداخل والخارج.
وهي -بطبيعتها هذه- كأنها "فيتو" آخر من صنعها يقف سداً منيعاً بينها وبين اعتراف العالم بها، إلى جانب "الفيتو السعودي" كما أسلفنا.
في موقع آخر من مذكراته، يضيف العيني كلاماً يدلنا على الطريقة العقلانية النيّرة التي كان يفكر بها القادة الجمهوريون في السياسة الخارجية:
"قلت في ما سبق إن اهتمامنا باعتراف المملكة العربية السعودية بالجمهورية العربية اليمنية لم يكن فقط لأهمية المملكة والعلاقات معها، وهي البلد الشقيق المجاور الغني، بل لأن عدم اعترافها كان بمثابة "فيتو" حجب عنا اعتراف عدد كبير من دول العالم الغربي وتعاونه معنا.
وكنت أشبه وضعنا بوضع ألمانيا الديموقراطية، فنضالها للوصول إلى علاقات طبيعية مع ألمانيا الاتحادية لم يكن فقط لأهمية ألمانيا الاتحادية وثقلها الاقتصادي، بل لأن موقفها المعادي قد حال دون قيام علاقات ديبلوماسية بين ألمانيا الديموقراطية وعدد كبير من دول العالم.
وفعلاً عندما اعترفت المملكة العربية السعوية بالجمهورية، سارعت على الفور فرنسا وبريطانيا وتركيا وإيران ودول كثيرة في الغرب، إلى إعلان اعترافها الرسمي بها".
ويتابع بالقول: "وكنت أشعر بعد اعتراف المملكة العربية السعودية، بأننا بحاجة إلى الاهتمام بأمرين اثنين في سياستنا الخارجية:
الأول: المحافظة على علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وسائر الدول الاشتراكية والتقدمية ودول عدم الانحياز.
فقد وقفت هذه الدول معنا في أصعب الظروف، وساعدتنا، وليس من مصلحتنا ولا من اللياقة والحكمة تنكرنا وتباعدنا عنها اليوم.
الثاني: أن نستفيد فعلاً من انفتاح الغرب علينا، فلا نكتفي بالاعتراف الرسمي بالجمهورية، بل أن نطور هذا الأمر إلى تبادل للتمثيل الديبلوماسي والحصول على المساعدات في مجال التنمية والثقافة".
وعليه، فالاعتراف -بين أفراد أو دول- إنما هو حاصل أخلاق وسياسات التعارف والتواصل، كما أن الإنكار حاصل ثقافة وأخلاق وسياسات التناكر والتباغض.