محمد العلائي

محمد العلائي

تابعنى على

بيئة مفتوحة على أسوأ المؤثرات

منذ 7 ساعات و 36 دقيقة

ذات مرة كنا نتكلم عن سوريا ومعالمها وتاريخها قبل وبعد الاسلام، فانتبهنا كالعادة الى حقيقة أن اليمن -ربما بسبب طبيعته الصعبة وموقعه- كان حضوره هامشياً في التاريخ، رغم ما في الاعتراف بهذا من مرارة تجرح غرورنا القومي.

وقلت بشيء من الجد والهزل: حتى أنبياء اليمن في الزمن الغابر كان حظهم من الشهرة والنجاح قليلاً مثل حظّ ملوكه وسلاطينه. 

فلا يوجد بين الأنبياء والرسل، مؤسسي الديانات الكبرى، من عاش ومات في اليمن.

بل وليس في اليمن ضريح أو مرقد لأيّ من صحابة النبي الكبار المشاركين في قصة الإسلام الأولى، حتى معاذ بن جبل، أحد أهم مبعوثي النبي إلى اليمن، مات ودفن في الشام!

وليس بلا معنى أن المذاهب الفقهية والكلامية في اليمن، على مدى تاريخه، قد وفدت عليه كلها من الخارج، ولا واحد منها تم انتاجه وتطويره محلياً.

في العصر الإسلامي، حسب علمي لم تظهر مدرسة مستقلة في الفقه يمكن ربطها باليمن حصراً، ولا مدرسة في علم الكلام ولا في السياسة ولا في اللغة والنحو والأدب، كما هو الحال في العراق والشام والحجاز ومصر.

هكذا كان الحال قبل الإسلام. 

مثلاً كانت المسيحية في اليمن منقسمة إلى فرق ومذاهب متعددة بتعدد المراكز الخارجية المصدِّرة للمقالات والصيغ اللاهوتية المختلفة، ومتنوعة بتنوع المصالح المحلية وتنوع خطوط ومصادر التبشير ما بين يونانية (بيزنطية) وسريانية وحبشية. 

فقد تلقى اليمنيون القدامى النصرانية من منابعها في الشام ومصر والعراق والحبشة. 

لم ينشأ في اليمن مركز كنسي موحَّد مطبوع بطابعه الخاص. 

لا يقتصر الأمر على الدين، حتى الأفكار والعقائد والمذاهب الدنيوية العلمانية تأتي إلى اليمن بدلاً من أن تصدر عنه.

وفي العصر الحديث، يمكن ملاحظة الكم الكبير من الدعوات والروابط الحركية والتنظيمية والشعارات السياسية التي استقبلها اليمن، إسلامية أو علمانية. 

كلها وافدة من الخارج، عربياً أو من عموم العالَم. 

على سبيل المثال، ظهرت الفكرة القومية العربية الحديثة بين الشام والعراق، وانقسمت عند التطبيق إلى مذاهب مطبوعة بطابع المناطق العربية المركزية: 

مصرية (من خلال التجربة الناصرية)، وعراقية وسورية (بعث العراق وبعث سوريا وحركة القوميين العرب).

تفاعل اليمنيون مع المذاهب الثلاثة بالفكر والحركة والتنظيم، وظهرت في اليمن فروع لكل اتجاه وتيار.

هل يمكن لهذا أن يشير إلى شيء ما؟

نعم. 

فهذا قد يشير إلى أن اليمن بيئة مستقبلة، منفعلة، مفتوحة، بلا مناعة، أمام أسوأ المؤثرات العقلية والروحية.

هناك دائماً مراكز تأثير خارجية، حين تصحّ، نصحّ نحن. وحين تمرض، نعتلّ نحن.

حتى إن المرء يقول أحياناً: 

ربما لا خيار أمامنا اليوم إلا أن ننتظر إلى أن تنتقل إلينا حالة التسامي الوطني مرة أخرى بالعدوى، من الجهات والبلدان ذاتها التي أخذنا منها عدوى الارتكاس والسقوط والمرض.

بالأمس، اتجهنا بكل عاطفتنا نحو الوحدة والتجانس والتآلف، تحت تأثير عدوى إيجابية جاءت من الخارج.

واليوم، نتجه بنفس العاطفة نحو الفُرقة والتباين والشقاق، بعدوى أخرى من ذات المصدر.

أقول هذا أحياناً، ولكني لست على يقين مما أقول.

وربما آن لنا أن نكفّ عن انتظار العدوى، خيراً كانت أو شرّاً، وأن نفكر بجدية في بناء مناعة ذاتية، عقلية وثقافية وسياسية. 

لا يعني هذا الانغلاق أو الانفصال عن العالم، بل القدرة على التمييز والتمحيص، على التفاعل لا التبعية، وعلى الاجتهاد لا التكرار. 

وفي هذا السياق، أميل إلى التفاعل والاتصال الإيجابي المثمر، مفضِّلاً "التأويل الحر والاختيار" على "الاقتباس والتأثر". 

أعني بذلك أن نتصل مع الثقافات والتجارب بروح نقدية حرة، فنختار منها ما يتفق مع مقاصدنا وأغراضنا التي يمليها علينا وضعنا المميز، لا أن نستسلم للاقتباس الحرفي والتأثر غير المتبصر.

وإذا كنا لفترة طويلة بيئة مفتوحة على أسوأ المؤثرات، فلعل التحدي الآن أن نصبح بيئة تستقبل الأفضل وتصنع منه ما يناسبها، وربما في لحظة ما، تبدأ أيضاً في التأثير.

من صفحة الكاتب على الفيسبوك