صالح أبو عوذل

صالح أبو عوذل

تابعنى على

استثمارات إماراتية تعيد رسم ملامح الطاقة في اليمن

منذ 47 دقيقة

استثمارات الإمارات في قطاع الطاقة اليمني... رافعة اقتصادية بأبعاد سياسية واستراتيجية

على مدى أكثر من عقد، ظلّ قطاع الطاقة اليمني شاهدًا على انهيار الدولة وتآكل مؤسساتها منذ سيطرة جماعة الحوثي المدعومة من إيران على صنعاء في سبتمبر 2014.

ومع توسع الجماعة نحو مدن أخرى وصولًا إلى عدن، تفككت منظومة الكهرباء سريعًا، لتتراجع الخدمات الأساسية في قطاعات الصحة والتعليم والمياه إلى مستويات غير مسبوقة.

ومع تفاقم الانقطاعات اليومية، تحولت الطاقة إلى عبء يستهلك ما تبقّى من قدرة السكان على الاحتمال، ورسّخ اعتمادهم على حلول بديلة مكلفة وغير آمنة.

لكن المشهد بدأ يتغير تدريجيًا بعد تحرير عدن في 2015. فقد لعبت دولة الإمارات العربية المتحدة دورًا مركزيًا في الحفاظ على بقاء الشبكة الكهربائية في المدن المحررة.

البداية كانت بطابع إنساني مباشر: مولدات إسعافية، تشغل محطات متوقفة، وتسديد مستحقات شركات الطاقة المشتراة. ومع استعادة الحد الأدنى من الاستقرار، اتجهت أبوظبي نحو مشاريع طويلة الأمد، بينها تمويل محطات جديدة وصلت قدرتها إلى 120 ميجاواط في عدن والمخا وسقطرى.

وبلغ هذا المسار ذروته في نوفمبر 2025، عندما أعلنت الإمارات عن محفظة استثمارية بقيمة مليار دولار لإعادة بناء قطاع الطاقة اليمني. وهو رقم غير مسبوق، ومؤشر على تحوّل مقاربة الإمارات من “دعم إسعافي” إلى “إعادة تصميم قطاع حيوي” يعاني من انهيار كامل.

وتستهدف المحفظة مشروعات للطاقة الشمسية والرياح والتخزين الكهربائي، إضافة إلى تحديث شبكات التوزيع التي عانت من دمار واسع خلال الحرب.

ورغم أن المساعدات الخارجية غالبًا ما تُتهم بأنها قصيرة المدى أو ترتبط باعتبارات سياسية، إلا أن الدعم الإماراتي الأخير يظهر كجزء من إستراتيجية أوسع تستهدف تثبيت الاستقرار وتحسين مستوى الخدمات الأساسية في المدن المحررة. فالإمارات تبنّت نهجًا يركز على توفير الكهرباء للمستشفيات والمدارس والمرافق الحيوية باعتبارها شرطًا أساسيًا لمواجهة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.

كما رفعت المشاريع الإماراتية القدرة الإنتاجية للطاقة بما يصل إلى 5 ميجاواط يوميًا في بعض المدن، ما قلّل من فترات الانقطاع وساعد في إعادة تشغيل الخدمات العامة.

ويُعدّ وضع الكهرباء في اليمن أحد الأسوأ عالميًا، إذ تصنّفه بيانات البنك الدولي وتقارير الطاقة الدولية ضمن “أسوأ ثلاث دول في العالم” على مستوى أداء قطاع الكهرباء. فالبلاد تخسر ما بين 60 و80في المئة من قدرتها الكهربائية الاسمية يوميًا، بينما يتراوح انقطاع التيار في المدن المحررة بين 10 و20 ساعة يوميًا، ويصل في بعض المناطق إلى 23 ساعة.

ويُقدّر متوسط الانقطاع السنوي بين 4,400 و5,000 ساعة، وهي أرقام تجعل الكهرباء خدمة نادرة أكثر من كونها حقًا أساسيًا. كما لا يحصل سوى 47 في المئة من السكان على الكهرباء بشكل متقطع، في حين تتكبد البلاد خسائر اقتصادية مباشرة من ناتجها المحلي كل عام.

ويضع هذا الأداء الضعيف اليمن في المرتبة الثالثة عالميًا بعد جنوب السودان وأفغانستان، وهما بلدان دمّرتهما النزاعات المسلحة، وتشهدان انهيارًا مشابهًا في الشبكات وغيابًا شبه كامل للوقود.

ويمكن أيضًا مقارنة الوضع اليمني بحالات عربية مثل لبنان، حيث الفساد المالي وضعف البنية التحتية، أو السودان الذي انهار قطاعه الكهربائي تحت حكم الحركة الإسلامية، ليصبح أحد أفقر البلدان طاقيًا في المنطقة.

لكن المثال الأكثر إلهامًا هو تجربة رواندا. ففي عام 1995، لم تتجاوز نسبة الحصول على الكهرباء 4 في المئة، وكانت الانقطاعات تفوق 18 ساعة يوميًا. إلا أن البلاد نفذت خلال عقد واحد خطة متكاملة للطاقة، رفعت الوصول إلى 40 في المئة، وأصبحت اليوم نموذجًا يُحتذى للدول الخارجة من الصراعات.

ويقدم هذا المثال خريطة طريق لما يمكن أن يحدث في اليمن إذا نُفذت محفظة المليار دولار الإماراتية بنجاح، خاصة أنها ليست دعمًا تقنيًا محدودًا، بل تدخل ضمن “إعادة بناء دولة فاشلة طاقيًا” عبر إصلاح كامل للمنظومة لا مجرد تحسينات سطحية.

وفي مؤتمر الطاقة بعدن، والذي شهد الإعلان عن محفظة المليار دولار، أكدت وزارة الخارجية الإماراتية أن المبادرة تأتي تنفيذًا لتوجيهات رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ومتابعة نائبه الشيخ منصور بن زايد.

وأوضح السفير الإماراتي لدى اليمن محمد حمد الزعابي أن توفير الطاقة المستدامة ليس مجرد دعم تقني، بل خطوة أساسية لاستعادة الثقة بالاقتصاد، وتحفيز الاستثمارات، وتخفيف الضغوط على الحكومة اليمنية.

ورحّب رئيس الوزراء اليمني سالم بن بريك بالمبادرة، مشيرًا إلى أنها تمثل دفعة قوية لجهود إعادة الإعمار، وتوفر للحكومة فرصة حقيقية لإعادة بناء واحد من أهم القطاعات الحيوية. كما شهد المؤتمر مشاركة دول دائمة العضوية في مجلس الأمن وممثلين عن الأمم المتحدة، في مؤشر واضح على أن قطاع الطاقة أصبح محورًا رئيسيًا لاستقرار اليمن على المدى الطويل.

وليس ضخ مليار دولار في قطاع الطاقة اليمني ليس مجرد مشروع تنموي جديد؛ بل هو نقطة تحول قد تعيد رسم ملامح الاقتصاد والبنية التحتية في بلد مزقته الحرب.

وإذا نجحت هذه المبادرة في تجاوز تحديات الفساد والبنية المتهالكة وضعف المؤسسات، فقد تمهّد الطريق لقطاع طاقة أكثر استدامة، يوفر ما تحتاجه المدن اليمنية لاستعادة الحياة الطبيعية، ويعيد بث الأمل في مستقبل لم يعد اليمنيون يرون ملامحه بوضوح منذ سنوات.

ولا يمثل ضخ مليار دولار أميركي في قطاع الطاقة اليمني مجرد استثمار كبير في البنية التحتية، بل يشكل—من منظور اقتصادي وتنموي—أحد أكثر التحولات المحتملة عمقًا منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عشر سنوات. فالمشاريع المعلنة ليست تحسينات تقنية على شبكة كهربائية متهالكة، بل محاولة لإعادة هندسة قطاع حيوي ترتبط به عشرات القطاعات الأخرى، ما يجعل أثره مباشرًا على الحياة اليومية، وسوق العمل، وهيكلة الاقتصاد المحلي في المدن المحررة.

وعلى مدى سنوات، كانت مدن مثل عدن والمخا والمكلا تعاني انقطاعات كهربائية تصل إلى 18–20 ساعة يوميًا، الأمر الذي خلق بيئة خانقة اقتصاديًا واجتماعيًا. فقد ارتفعت كلفة الكهرباء المنزلية بسبب الاعتماد شبه الكامل على المولدات التجارية، واضطر آلاف الأسر إلى شراء منظومات طاقة شمسية خاصة بتكلفة لا تقل عن ثلاثة آلاف دولار لكل منظومة، وهو رقم يفوق قدرة معظم الأسر.

وتسبب هذا الانهيار في شلل واضح داخل المستشفيات والمدارس والمختبرات، كما أصاب الأسواق والمصانع الصغيرة بحالة ركود ممتد، إذ لا يمكن لأي نشاط اقتصادي أن يعمل في ظل غياب الكهرباء المستقرة.

ورغم أن الإمارات بدأت بالفعل تنفيذ مشاريع طاقة مستدامة في عدن والمخا وشبوة، فإن النظر إلى حجم الاستثمار الجديد—مليار دولار—يكشف أن الأمر لا يتعلق بمجرد زيادة في الإنتاج الكهربائي، بل بتحول شامل في البنية التحتية للطاقة. فالمحطات الشمسية والرياح وشبكات التوزيع الحديثة تعيد دورة الحياة الطبيعية إلى المدن المحررة: المستشفيات تعمل بكفاءة، المدارس والمعاهد تستعيد مختبراتها، الورش والصناعات الصغيرة تعاود التشغيل، والمتاجر تتخلى عن المولدات المكلفة.

ومن المتوقع أن تشهد الأسر انخفاضًا كبيرًا في نفقات الكهرباء قد يصل إلى 30–40في المئة في بعض المدن.

كما يمثل هذا الاستثمار دفعة كبيرة لمشاريع البنية التحتية، إذ يؤدي ضخ مليار دولار في قطاع الطاقة إلى تحريك قطاعات كاملة تشمل الإنشاءات والنقل واستيراد المعدات، والتعاقد مع الشركات المحلية، وتطوير بطاريات التخزين وشبكات التوزيع.

وتشير التقديرات إلى أن مشاريع الطاقة الإماراتية ستوفر ما بين 10,000 و15,000 وظيفة مباشرة خلال مرحلة البناء والتركيب، وما بين 30,000 و40,000 وظيفة غير مباشرة في سلاسل الإمداد والخدمات والنقل والصناعات المساندة. و يعد هذا النوع من الاستثمارات محركًا رئيسيًا للتعافي الاقتصادي في الدول الخارجة من النزاعات.

وتعتمد عدن—العاصمة الاقتصادية لليمن—إلى حد كبير على المنشآت الصغيرة: ورش، مطاعم، مصانع صغيرة، مراكز تعليم، ومشاريع تجارية تعتمد على الكهرباء بشكل كامل.

وتحملت هذه المنشآت طوال السنوات الماضية تكاليف إضافية بسبب فارق سعر التيار الكهربائي، ما ضغط بقوة على أصحابها.

ويعني توفّر الكهرباء المستقرة لهذه القطاعات عودة النشاط الاقتصادي وارتفاع مستوى الإنتاج، وتحسن الدخل القومي، وزيادة قدرة السوق المحلي على خلق فرص عمل جديدة.

ويعدّ خفض الاعتماد على الوقود أحد أهم مكاسب هذا الاستثمار. فاليمن ينفق ملايين الدولارات سنويًا لشراء الديزل وتشغيل المحطات والمولدات التجارية. أما المحطات الشمسية والرياح التي تموّلها الإمارات فستقلل استهلاك الوقود بنسبة 40–60 في المئة في المدن الساحلية، ما يخفف الضغط المالي على الحكومة، ويتيح إعادة توجيه الأموال إلى قطاعات أكثر إلحاحًا مثل التعليم والصحة والمياه والأمن. كما تنخفض أيضًا فاتورة المولدات التي تدفعها الأسر، وهو ما يعزز القوة الشرائية ويخفف الضغوط المعيشية الثقيلة.

ومن ناحية اجتماعية، فإن توفير كهرباء مستقرة يُعد إحدى أكثر أدوات التهدئة الفعّالة في المجتمعات الخارجة من الصراعات. فالدراسات تشير إلى أن تحسن الخدمات الأساسية—كالكهرباء والمياه—يسهم في خفض معدلات الجريمة، وتقليل التوترات، وزيادة ثقة المواطنين بالمؤسسات. عودة الكهرباء في اليمن تعني تراجع مؤشرات السخط الشعبي، وانخراط الشباب في سوق العمل، وتراجع الاعتماد على اقتصاد الظل.

كما تفتح مشاريع الطاقة الشمسية بقدرات تصل إلى 120 ميغاوات في عدن، وتوسعات مخطط لها في حضرموت والمخا، الباب أمام نشوء سوق طاقة مستقبلية قادرة على استقطاب شركات دولية، وتطوير صناعات محلية لإنتاج معدات الطاقة المتجددة، وتوفير وظائف نوعية للمهندسين والفنيين، وتدريب آلاف الشباب في تخصصات الطاقة النظيفة. وهذا يمهّد لتحول اليمن من بلد يعتمد بشكل شبه كامل على الوقود المستورد إلى بلد قادر على بناء نموذج طاقة مستدامة منخفضة الكلفة.

إن المليار دولار التي تضخها الإمارات ليست مجرد مبلغ مالي؛ إنها خارطة طريق لنمو اقتصادي جديد. فالمحفظة الإماراتية ليست مشروع كهرباء بقدر ما هي مشروع لإعادة بناء الاقتصاد المحلي، واستثمار في الاستقرار الاجتماعي، وفرصة لتوليد عشرات الآلاف من الوظائف، ورافعة لتحسين الحياة في المدن المحررة، وخطوة أساسية للانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد التعافي.

وإذا ما نُفّذت المشاريع وفق الحوكمة المطلوبة، فإن الإشراف الإماراتي على محفظة الطاقة قد يشكّل لحظة تحول تاريخية في المسار الاقتصادي لليمن—على غرار الدول التي خرجت من صراعات طويلة وبدأت نهضتها من بوابة الطاقة.

إن الأثر الاقتصادي المتوقع لهذا التحول كبير، لكنه يبدأ من نقطة بسيطة: أي تحسن— حتى ولو 10في المئة—في استقرار الكهرباء سينعكس مباشرة على الإنتاج، والدخل، وسوق العمل، والأمن، والخدمات العامة، وثقة المواطنين بالدولة.

وفي بلد عانى من تآكل مؤسساتي واقتصادي واسع، يصبح تحسين الكهرباء شرطًا أساسيًا للانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد التعافي.

* المصدر: صحيفة العرب اللندنية