كل الذين أسهموا في هزيمة مشروع الدولة بمعناها الذي يؤسس لوطن ومواطنة لا زالوا يقاومون ويرفضون بناء هذه الدولة بصور مختلفة من التعبيرات والمواقف.
لم يتعظوا مما أصاب الناس وأصابهم من ويلات بسبب الهزيمة التي أوقعوها بالدولة طوال ذلك العمر المديد من الصراع بين مشروع الدولة ومشاريع التسلط الخاصة.
كل الذين يعملون على هزيمة الدولة يتحولون مع المدى إلى نفايات لا تصلح لشيء غير إشعال الحروب وملاعنة الشقاء الذي استولدوه بأيديهم.
توزع هؤلاء الذين قاوموا الدولة بين مغتصب للحكم، وجلاد بيد المغتصب، وناهب للثروة، ومروج للخطيئة التي ترتكب باسم الدولة الغائبة، ومنظر للحق الإلهي في الحكم، وحانق على ضياع الخلافة، وسلالي أعطبه الدهر مع ما أعطب من خرافات، وناعق في خراب الثأر والانتقام... إلخ.
كل هؤلاء وغيرهم لم يجدوا، ولن يجدوا، ما يستروا به عوراتهم عندما تهزم الدولة وتنهار كل دعاواهم التي تستجر من ملهاة الأزمان التي لم تستطع أن تقدم دليلاً واحداً على أن جمود الفكر البشري عند نمط بعينه من الدولة والحكم لم يكن سبباً في الحروب وانهيار الأمم، وأن هذه الانهيارات لم تتوقف إلا حينما ترك للإنسان حرية اختيار حاكمه ونمط دولته.
يتجدد مفهوم الحكم والدولة باستمرار، ويتداخل الوعي والتطور المادي والمعرفي، الذي يحدث في الواقع، في علاقة جدلية تمثل إيقاع الحياة الذي تتفرع منه كل مكونات النهوض والتطور أو الخراب والانهيارات. ويبقى الإنسان في قلب فكرة الحكم، باعتبار الحكم الوجه الآخر للدولة التي تجسد إرادة هذا الإنسان وغاياته.
من حق كل هؤلاء أن يعتقدوا كيفما شاءوا، ولكن ليس من حقهم فرض هذا الاعتقاد على غيرهم بالقوة، لأنهم في هذه الحالة لن يمنعوا الآخرين من فرض معتقداتهم بالقوة أيضاً، وإذا بِنَا أمام دورات من العنف والانهيارات التي لا تنتهي. معظم دورات العنف التي شهدها اليمن تدور في هذه السياقات التي أخذت تشعل جذوة الانتقام مع كل راية من الرايات التي ترفع هذه المفاهيم المشوهة للدولة وسلطتها القمعية.
الدولة التي تمثل القاسم المشترك للجميع بعقدها الاجتماعي وقوانينها وقواعدها ومؤسساتها واحترامها للإنسان واختياراته هي وحدها القادرة على حماية معتقدات الناس وأفكارهم ومصالحهم، وهي وحدها من يؤمن حماية الفكرة التي يحملها الإنسان دون وصاية من ذلك النوع الذي يستند على ادعاءات يجري تدويرها مع الزمن كنفايات أيديولوجية تم تصميمها بمقاسات خاصة لخدمة الاستبداد وقمع الانسان وإذلاله.
المستبد عندما تنتهي دورة استبداده يقع في فك الاستبداد الذي هزم به الدولة.
والمنتفع، الذي كان سوطاً بيد المستبد، يسلم السوط لجلاد آخر، ويتحول من جلاد إلى نفاية على هامش الحياة.
وناهب الثروة يتمتع بما نهب إلى حين، لكنه يعيش كابوس العوز الذي يتجلى في صور الضياع التي تلاحقه كمدمن لفساد الضمير.
أما الموروث السلالي الذي لا يرى الدولة غير منصة سيادة يتوارثها بالدم، فهو يتخبط في تاريخ يعتوره الانفصام والقلق والخوف والغرور والاعتقاد بالأحقية في الحكم ليشكل منه كل ذلك عجينة متناقضة، مع ما يترتب عليه من منهج فكري يرضعه الكراهية والاحتقار للآخر، ويضعه دائماً في مواجهة مع هذا الآخر من منطلق أنه لا يستطيع أن يتعايش معه إلا كحاكم ومتسلط.
وما تبقى من عتاة المقاومين لبناء الدولة فإنهم، حينما تنهار الأمة بسبب الحروب، يتخبطون في أرذل ما شيدوه من أوهام كبديل للدولة ليكتشفوا أنهم في قائمة ضحايا غياب الدولة التي قاوموا بناءها وهزموها بخرافاتهم وتهويماتهم وصلفهم.
لا بديل عن الدولة التي تصنع الوطن وتعيد بناء الإنسان كمواطن بحقوقه وواجباته المتساوية والعادلة.