تطل علينا الذكرى ال 66 لثورة 23 يوليو المجيدة، التي نستطيع أن نقول إنها ثورة غيرت مجريات التاريخ العربي الذي اتسم، آنذاك، بالخنوع والتبعية والتسليم الكلي للمستعمر الأجنبي، ثورة ولدت أفكارها في فلسطين بدافع وطني عروبي قومي، وبهمة شباب حر وتنطيم عسكري غيور لم يرُق له ما وصلت إليه الأمور خصوصاً بعد 1948، ولا أعتقد أن ثورة في تاريخنا العربي الحديث نالت الرضا والقبول والصدى الإيجابي في أوساط المجتمع العربي كما نالته هذه الثورة ورموزها، كيف لا وهي أم الثورات العربية المتتالية، وها نحن في اليمن نعد ثورة يوليو إلهاماً عربياً لثورة 26 سبتمبر 1962، بل وهي الحامية المساندة لها من خلال الدور العظيم الذي قامت به مصر العروبة لمساندة ثورة شعبنا اليمني ضد كهنوت الإمامة وظلمها وتخلفها الممتد منذ قدوم الهادي يحيى بن الحسين محتلا لبلادنا برفقة قتلة طبرستان ومجرميها، ولولا العون المصري لما نجحت ثورتنا السبتمبرية الخالدة في دفن هذا الكابوس الجاثم على قلوبنا لأكثر من ألف عام بدعوى الحق الإلهي بالحكم.
ومن الحقائق التي لا زيف فيها أو مبالغة أن الإنسان العربي كبر وارتفعت هامته في رحاب ثورة 23 يوليو 1952 وكنف الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر، ولا غرابة أن يجمع المؤرخون عرباً وعجماً على اعتبارها واحدةً من أهم وأعظم الثورات تأثيراً في التاريخ المعاصر، لما أحدثته من تحولات، وما أفرزته من إيجابيات على صعيد مصر أولاً، والوطن العربي ثانياً، والعالم ثالثاً، وبالأخص على مستوى الدول النامية.
وكما هو الحال مع جميع الثورات العظيمة في التاريخ اتصفت ثورة 23 يوليو 1952 بمزيج من الإيجابيات والسلبيات، لكن إيجابياتها كانت أكبر بكثير من سلبياتها. وكذا كان الحال مع زعيمها الخالد ورفاقه الأوفياء، أقلّه في نظر من اعتنقوا الفكر القومي العربي وبقوا على إيمانهم الراسخ به برغم كل ما أحاط به من مؤامرات دنيئة وما مورس ضده من ضغوط أكثر دناءة على المستويين العربي والأجنبي.
ها نحن اليوم نعيش ذكراها ال 66 ولا زال البعض يصر على تشويه هذه الثورة والنيل من قادتها، متأثراً بالحملات المضادة لقوى الردة العربية التي ارتهنت للولايات المتحدة الأميركية وربطت نفسها بمشروعها الاستعماري ـ الاستيطاني في وطننا العربي، متناسين أن الشعوب لا تنساق وراء زيفهم، بل تعمل مقارنات منطقية وإذا ما قارنا ثورة 23 يوليو "برغم أعوامها الثمانية عشرة القصيرة التي امتدت بين عامي تفجرها ووفاة قائدها" بكل التجارب والممارسات السياسية العربية الأخرى التي سبقتها ولحقت بها، فإنها تبقى الأكثر تميزاً وتفوقاً، لما كان لها من فضل كبير وحاسم في تحقيق الاستقلال الوطني لمصر والعديد من الأقطار العربية ومنها بلادنا اليمن، بالإضافة لعدد من الدول النامية في جميع القارات. هذا بالطبع إلى جانب ما أنجزته من تحولات اجتماعية وتنموية وخروج من دائرة الاستقطاب الدولي والتبعية، والتي كان لجمال عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار في مجلس قيادة الثورة شرف تحقيقها برغم شراسة قوى الأعداء في الداخل والخارج وتكالبها على الثورة.. فلولا قوى الظلام المضادة داخل مصر والوطن العربي عامة والاستعمار والصهيونية في الخارج، لكان بمقدور الثورة بقيادة جمال عبد الناصر أن تنجز الكثير من خططها ومشاريعها وبرامجها الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وكذلك الوحدوية.
ودعونا نتوقف عند جمال عبد الناصر وثورته وتجربته القيادية ونجلب في الصورة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 70 عاماً من الاحتلال الصهيوني الفاشي، وفي الأذهان جميع أشكال المؤامرات والمخططات الجهنمية التي يتعرض لها الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
ونتوقف عند هذه المناسبة الثورية العظيمة متشبثين بما تبقى عندنا من كرامة كان لجمال عبد الناصر الفضل الأكبر في إرساء دعائمها وزرعها في نفس وعقل وقلب كل إنسان عربي على مساحة الوطن العربي كله.
وعلينا أن نفصح السبب والدافع وراء توقفنا أمام هذه الثورة وقادتها وتبجيلنا لهم، فكل ذلك سببه شعورنا الصادق والأمين بأننا أحوج ما نكون في هذه الأيام لمثل هذا الرجل الكبير، الذي كبرت أمته به وكبر بها.
إن حالة التمييز الذي اتسمت به ثورة 23 يوليو بتجربتها وشخص قائدها، وضرورة إخضاعها للتقييم وأخذ العبر من نجاحاتها وتصحيح إخفاقاتها ووضعها موضع التطبيق العملي والبناء عليها، بحيث تخرج الأمة العربية من النفق المظلم وتستعيد مكانتها التاريخية وتعود كما أرادها رب العالمين "خير أمة أخرجت للناس"، إن كنا نريد التقدم والأنفة والحياة بعزة وكرامة.
مبارك لمصر وشعبها ولأمتنا العربية جمعاء هذه الثورة والعلامة الفارقة التي أضاءت تاريخنا المعاصر المصبوغ بالسواد والدم.