زمان، أيام ما كنت طايش كان عندي طموح اقع غني وثري، وافتهن في حياتي، وأساعد الفقراء، وأدعم المواهب والمبدعين، وأموت ومعي ما يكفي عائلتي للعيش آمنين ومتهنيين ومستورين، ولكن لما كبرت وتعرفت على الأغنياء والأثرياء واقتربت منهم بطلت طيش وقلت مش ضروري نكون كلنا أغنياء يكفي أن يكون هناك غني واحد طيب وابن ناس يمد لك يده وتعيش من خيره والطمع مهلكة والقناعة كنز لا يفني، ولكن الأمر كان صادماً بالنسبة لي ومؤذياً لمشاعري بصراحة إلى حد لم يكن متوقعاً على الإطلاق.
غالبية الأثرياء الذين تعرفت عليهم في سوق البرصة ومقيل مجلة "الفوربس" يريدون أن يكونوا أكثر ثراءً من الأغنياء الآخرين وبأي طريقة كانت، حتى ولو قد الواحد منهم مريض على باب قبره ومعه مال قارون الذي يكفيه هو وأسرته لخمسين جيلاً قادمة لا يشبع ولا يقنع، ويظل حتى آخر دقيقة من حياته يفكر بالكسب وبالمزيد من الأرباح ولا يريد أن يقابل ربنا وهناك ثري لديه مال أكثر منه!
وما قيمة أي ثروة مهما بلغ حجمها، على أية حال، إن لم يكن وراءها إنسان نبيل تخلده مواقفه النبيلة وأفعاله الحسنة تجاه أبناء مجتمعه، وكلنا نعرف أن أغنى وأثرى رجل في اليمن لم يخلد في ذاكرة الناس بوصفه "هائل سعيد أنعم" صاحب أكبر امبراطورية اقتصادية في البلد وإنما اقترنت ذكراه العطرة في الوجدان الشعبي بوصفه "هائل سعيد أنعم" رجل الخير والبر والإحسان، ولكنه "رحمة الله تغشاه" مات قبل سنوات كثيرة وغادر الدنيا الفانية بكفن أبيض، وتلك خسارة كبيرة يشعر بفداحتها كوم كبير من الفقراء الذين لا يريدون أن يكونوا أغنياء في الحياة مطلقاً، وكان يكفيهم فقط أن يكون في حياتهم اليومية ثري واحد طيب وابن حلال كذلك المرحوم الخالد الذي لا يتكرر نموذجه الإنساني في الحياة مرتين.
وبأيش يمكن أن تقترن ذكرى "شاهر عبد الحق" مثلاً؟ ملك الضغط والسكر والكولسترول غير أنه رجل ثري يتمتع بالسعادة الشخصية، ولديه طيارة خاصة، ولكن خيره لا يمتد إلى أبعد من بوابة فيلته أو صلعته السمراء اللامعة حتى وإن كان في محيط حارته التي يعيش فيها أكوام من التعساء الصلعان فإن الأمر لا يعنيه، ويكفي أن تكون صلعته لوحده باردة ولامعة ومش مهم أي صلعة أخرى في الحارة! وبأيش يمكن أن تقترن ذكرى "حميد الأحمر" القبيلي الذي يغرف الزلط بالكريك غير أنه ثري ينفق طُبعة الزلط التي في جيب الكوت على احتياجات جيب بنطلونه الشخصي ويخبي الربالات ليصر بها طبعة الزلط التي سينفقها لاحقاً على احتياجات جيب زنة صلاة الجمعة!
وأما عندما يكون هناك ثري منعم يكذب على الناس ويوعدهم مرة بعد مرة بالنعيم ولكنه يبخل و لا يفعل لمجرد أن النعيم بطال على الفقراء وممكن يسبب لهم مغص وأمراض كثيرة ولا يفي حتى بمجرد وعوده التي قطعها عليهم أثناء مواسم الانتخابات، فإن تلك طامة كبيرة جداً تجعلك في حالة من الحيرة والغرابة وتتساءل وأنت صاحي ونايم "ليش السقاطة طيب؟" وما حاجة ثري للكذب على فقير وهو مُسلم عارف أصلاً أن الكذاب ربي يدخله النار؟!
وأما عندما يكون هناك ثري يقدم نفسه للناس على اعتبار أنه ابن المجتمع وأنه رأسمال وطني شاب لديه النية والطموح الكبيران للمساهمة في تنمية طاقات الشبان المطعفرين في قريتهم وتكتشف فيما بعد بأنه "رأسمال نيني" يزاحم الكبار على التفاهات فقط ومُسخر للهُبلان فإن ذلك هو الآخر أمر صادم ويستدعي التفكر والتـأمل بمسيرة حياة "مارك" ذاك الشاب الثري اليهودي ابن اليهودي الذي احتفظ لنفسه بـ 5% من ثروته ووهب الـ 95 % لصالح نواني العالم.
المال في الدنيا وسيلة للسعادة الشخصية بدرجة أساسية، وبدرجة ثانية هو وسيلة لإسعاد الآخرين ومد يد العون لهم، على أن ثرياً واحداً طيباً وابن حلال بوسعه أن يساعد مدينة فقيرة ويجعل أهلها كلهم سعداء، ويكون هو في المقابل سعيداً ومتهنياً ومرتاح البال، لكن من أين لنا هائل سعيد آخر، ومن أين لنا شاب يهودي ابن يهودي مثل مارك؟!