التجزؤ السياسي هو اللوحة التي لا تنفك تتناسخ في العصور المختلفة من تاريخ اليمن. وبالعودة في تاريخنا مئة عام أو ألف عام أو ألفي عام، سنكتشف دائماً وضعاً يمنياً مجزأً في صور وأشكال كثيرة، مثلما سنكتشف طفرات متفرّقة من التوحُّد في صور وأشكال متباينة أيضاً.
فلو شئنا العودة ألف عام، على سبيل المثال، وليكن في زمن الإمام الهادي الرّسّي (القرن العاشر الميلادي)، سنجد أن اليمن كانت مجزّأة إلى عدّة دويلات: الهادي في صنعاء وصعدة، الزيادية في تهامة والمرتبطة اسمياً بالخلافة المركزية في بغداد، واليعفريين في شبام، والدعاميين في همدان، وعلي بن الفضل في مذيخرة، إلى جانب رئاسات عشائرية: كالياميين في نجران، وأشباههم في خولان.
وإذا قفزنا ثلاثة قرون بعد زمن الهادي، وتحديداً قبيل مجيء الأيوبيين من مصر، يمكن أن نعثر على هذه اللوحة:
"وافترق ملك اليمن في هذه المدة فكان عدن وأبين والدملوة وتعز إلى نقيل صيد لآل زريع، وذمار ومخاليفها لسلاطين جنب وصنعاء وأعمالها إلى الظاهر، وحدود الاهنوم لعلي بن حاتم صاحب صنعاء، وصعدة وما إليها للأشراف، وشهارة وبلادها لأولاد القاسم العياني والجريب وما جاوره لولد عمر بن شرحبيل (آل أبي الحفاظ) الحجوري وتهامة الشامية (المخلاف السليماني) إلى حرض للشريف وهاس بن غانم بن يحيى بن حمزة السليماني، وبلاد زبيد إلى حد حرض من جهة اليمن إلى عبدالنبي بن علي.. ولم يزالوا كذلك إلى أن زالت دولتهم جميعا ببني أيوب".
وقبل مئة عام من الآن نجد لوحة يمنية مشابهة. ولنأخذ، مثلا، عام 1919: "كانت صعدة وصنعاء تحت نفوذ الإمام، ومناطق أبو عريش وصبيا واللحية وبعض حجور تخضع للإدريسي، فيما موانئ عدن والحديدة يسيطر عليها الإنجليز. ومناطق شرق صنعاء ومناطق وسط اليمن متذبذبة لم تكن قد حددت وجهتها ومصيرها بعد".
وإذا انتقلنا إلى يمن الحاضر وألقينا نظرة، فلن تختلف اللوحة إلا من حيث المسميات والحصص. التجزؤ هو الحالة المهيمنة في أيامنا هذه.
بالطبع، ليس علينا إنكار الحقائق والخواص التعددية للمجتمع اليمني والتي يتم الإشارة إليها في العقدين الأخيرين باعتبارها حوافز وقوى محركة تدفع نحو التصدع وتفكيك المتحد السياسي اليمني: الثنائية المذهبية والتباينات الجغرافية والجهوية والإنقسامات الإجتماعية القبلية.. لكن لماذا لم تقف هذه الحقائق والخواص حائلا دون السير في عمليات ومراحل التكوين والتشكل التاريخي التي أفضت في النهاية إلى الوحدة الاندماجية لشطري اليمن عام 1990؟ السؤال بتعبير آخر: لماذا لم تؤد الوظيفة التقسيمية التي أسندت إليها في هذه الحقبة؟
ما هو السر خلف تبدل وظيفتها من الحياد السياسي الذي كان يصب في صالح فعل التوحيد والمركزة، إلى الفاعلية باتجاه التجزؤ؟ هل التبدل يأتي بتأثير من معطيات الداخل أم أنه حاصل تفاعل هذه الحقائق والأسس مع اتجاهات وموازين السياسة في الإقليم والعالم أجمع؟
وإذا كنا في اليمن على مدى ألف عام شوافع وزيود وإسماعيليين مع أقلية يهودية، فلماذا لم تختف فكرة اليمن نهائيا من الأذهان؟
لا شك أن الحساسية الوطنية الحديثة، قبل مئة سنة كانت في أطوارها الأولى، وكان طرح المطالب وكسب المزايا والتعبير عن الاعتراض والتظلم بلغة مذهبية أو إثنية أو عصبية جغرافية لا يتنافى ومبادئ الضمير الوطني الذي لم تكن قد تحددت بعد. كما أن الخلفية المذهبية للحاكم المتغلب لم تكن تحمل هذا المعنى الذي بات له اليوم دور قوي في تحديد مصائر الدول المتقلقلة والضعيفة التكوين.
في نهاية المطاف، ثمة ما ينبغي الاعتراف به وهو أن الهويات الجزئية لا تنطوي في ذاتها على إمكانية التأثير السياسي التوحيدي لتأسيس كيانات على أنقاض الكيان الموحد. هذه الهويات لا تكون فعالة إلا إذا تم وضعها في علاقة مواجهة مع هوية جزئية أخرى متخيلة يجري تجسيمها وشيطنتها عبر تصويرها في شكل خطر أو تهديد.. أما بغياب هذا الآخر المعادي، يعجز هذا النوع من الهويات عن القيام بوظيفة توحيدية لكيانات دولتية مستقلة.