رغم حوار جدة المستمر، فمن المتوقع أن يتدحرح المشهد اليمني نحو سلسلة من التعقيدات المفتعلة للتعمية على جوهر الأزمة السياسية.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التبصر، إذ يكفي مراقبة السلوك السياسي للشرعية على مدار أربعة أعوام من العبث؛ كي ندرك جيداً كيف أنها تفضل تجاهل الأزمات في مهدها ثم الهروب من مواجهتها والركون إلى دعم الحليف الإقليمي، ثم القفز على ممكنات الحل والاعتقاد أن رطانة البيانات أو إصدار القرارات الصورية من شأنه أن يعيد تعديل موازين القوى.
لقد افتقدت قيادة الشرعية اليمنية إلى "إرادة الحكم" التي تستلزم العمل والجهد وتحمل المسؤولية، ولم يبق لها سوى شهوة السلطة وأوهام القوة.. والسبب ببساطة أنها لم تعد تعبر عن شرعية الإجماع العام أو حتى الحد الأدنى من التوافق النخبوي، بل أصبحت حكراً اصطفائياً للرئيس ونائبه الذين يمنحون ويمنعون وفق مصالحهم السياسية الضيقة.
لقد بحت حناجر النخب السياسية العاقلة وهي تطالب رئيس الجمهورية بإصلاح الشرعية، لا سيما بعد قراره الكارثي بإقالة خالد بحاح خلافا للدستور والأعراف ولقواعد اللعبة السياسية.. وبدلا من التعقل والاستماع إلى الناصحين قرر هادي إصدار سلسلة من القرارات الإقصائية لتحول مطالب إصلاح الشرعية إلى واقع معاكس من "شرعية الإصلاح".
بطبيعة الحال قوض الطابع الإقصائي للسلطة قدرتها على العمل بكفاءة، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لتآكلها الذاتي، حيث تداخل الإقصاء السياسي مع الفساد المالي والإداري مع واقع العجز العسكري، ولم تجد الشرعية إنجازا عسكريا حقيقا إلا في الجبهات التي تسلم زمام قيادتها أولئك المقصين من الشرعية عمليا رغم التزامهم بالقتال تحن مظلتها.
أما الجبهات التي يسيطر عليها حزب الإصلاح فتشهد خطوط التماس هدوءا مريحا، لا يعكره إلا بعض طلقات عابثة تدوي قبل تسلم أي دعم مالي من التحالف تحت بند "معركة التحرير" التي لم تر النور إلا إعلامياً.
لقد كرست هذه الوضعية الاحتكارية وهذا الفساد المستشري انفصال الواقع عن الخطاب، وانفصال من يحكم عمن يحارب، وها هي اليوم تهدد بانفصال الجنوب عن الشمال.. وفي المقابل فما زالت الشرعية تفضل الرياض كمقر إقامة دائم ورغيد للسلطة الحاكمة صوريا، وفضل معظم رجالها التنعم بامتيازات القاهرة أو اسطنبول بدلا عن التواجد مع اليمنيين في عاصمتهم المؤقتة.
إن استشراف مستقبل الصراع اليمني في ضوء هذه الحالة الاحتكارية داخل الشرعية، وفي ضوء الاحتقان السياسي الاجتماعي داخل المناطق المحررة، يعني هرولتنا جميعا نحو السيناريو الأسوأ، حيث لا حوار بين الشركاء ولا حرب بين الأعداء.. إنما دورات عنف تكرر نفسها وتلتهم ما تبقى من مقومات للاخلاص.
ما الحل إذن، هل يمكن المضي نحو تطبيع الأمور في المناطق المحررة وتحرير بقية المناطق المحتلة حوثيا، دون إجراء إصلاحات سياسية داخل الشرعية؟
حتما الإجابة هي لا. لكن ما نخشاه هو أن ما نواجهه اليوم من معضلة سياسية تحتاج إلى ما هو أكبر من مجرد إصلاح ترقيعي يستبدل الشخصيات الصدامية بأخرى توافقية.
إن ما نعانيه اليوم هو شرعية الفساد وليس فساد الشرعية، وسلطة الإقصاء وليس اقصائية السلطة. وعليه لا بد من إجراء تغييرات هيكلية تنفخ روحا جديداً في الشرعية؛ تغييرات تبدأ بمؤسسة الرئاسة وصولاً إلى الحكومة ثم البرلمان وصولاً إلى الجيس والأمن.
وقبل هذا كله يحتاج المحور العربي إلى بناء رؤية مشتركة لإدارة مستقبل المنطقة وضبط مسار الصراع اليمني، فمصفوفة الحل لم تعد يمنية خالصة وإنما ترتبط بعلاقة طردية مع متانة التوافقات العربية وفاعليتها.