حسن العديني
اجتثاث خبث «الإخوان» بشارة من السودان
في يومين متتابعين رأينا في السودان مشهدين يثيران سؤالين، أولهما حارق، والثاني مربك.
في اليوم الأول مثل الرئيس السابق عمر حسن البشير أمام المحكمة، وفي اليوم الثاني تم التوقيع على وثائق المرحلة الانتقالية وتشكيل مجلس السيادة، وفي قفص الاتهام لم يتخل البشير عن عصاه، لكن وظيفتها تغيرت، فيوم كان رئيساً طالما شوهد وهو يُلوِّح بها، ويهيج على إيقاع كلماته المفعمة بالغضب وبالوعيد والتهديد، نفس اليد أمسكت العصا، والمتهم البشير يتوكأ ولا يرقص، يتلكأ ولا يصرخ، ويتوسل ولا يتجبر.
تفصل بين الصورتين مسافة شاسعة البعد وضيقة كخرم إبرة، المفارقة يدركها علماء النفس كما علماء السياسة، حيث تمتزج في شخصية البشير ونظامه صورتان بوجهين عابسين للحكم، عانت قسوتهما بلدان عدة: الدكتاتورية العسكرية والحكم الثيوقراطي.
في الصورة الأولى تظهر البزة العسكرية موشاة بالنياشين البراقة، وهي لا تمثل حصاد مجد في حروب وطنية، بقدر ما يستملح أصحابها الصاعدون إلى القصور على ظهور الدبابات شكل ريش الطاووس، غير أنهم أحياناً يسوغونها بانتصارات حقيقية في حروب لم يكونوا فيها يذودون عن حياض الوطن، وإنما سفاحون يقتلون شعوبهم ويهيئون أوطانهم للدمار.
ثمة استثناءات بالطبع، فهناك ضباط قادوا شعوبهم إلى الحرية والمجد، وعلى الضفة الأخرى مدنيون استبدوا بشعوبهم وانحدروا بأوطانهم إلى الخراب والمذلة.
وعن السودان فقد كان صديق يردد بأن برج السودان هو العسكر، وكان يقولها بمرارة وبعاطفة وحميمية.
وبالفعل، فإنه خلال 63 عاماً منذ الاستقلال في 1956 عرف السودان حكومات مدنية متقطعة جملة مددها 13 سنة، قد تضم إليها سنة أخرى تولاها عبد الرحمن سوار الذهب.
في الصورة الثانية يظهر الوجه العابس في صورة حكم ديني تجسده جماعة «الإخوان» المسلمين، وإن ارتدت أسماء كودية، أو مارست الحكم من وراء حجاب بالتحالف مع سلطات دكتاتورية أو اشتغلت بندقية للإيجار لمن يدفع، وليست هناك حاجة إلى التذكير بما كانت عليه الجماعة في أفغانستان وباكستان بوصفها أداة غير نظيفة في أيدي الاستخبارات الأمريكية عند الفصل الأخير من الحرب الباردة، كذلك في البلدان العربية تتعدد الأمثلة، غير أن دورها في خيانة القضية الفلسطينية يكفي للإدانة، كما في الطعنة النجلاء للقدس الشريف، فقد تكفلت حركة «حماس» بشق الجسد الفلسطيني، وهيأت للرعونة الأمريكية كي تتمادى وتعترف بالمدينة المقدسة عاصمة ل«إسرائيل»، وأعطتها مبرراً للتجاسر على التشريع للدولة اليهودية نحو «إسرائيل التوراتية» من النيل إلى الفرات، كما أفصح عنها بلا خجل برنامج الليكود في الانتخابات الأخيرة.
غير أننا في السودان، والسؤال: ماذا فعلت الجماعة بهذا البلد وماذا جنت عليه؟
عندما بلغت دكتاتورية النميري ذروتها وحين اشتط به الجنون ظهر الغرام بين البزة العسكرية والرداء الديني، وتحالفت الجماعة معه وأصبغت عليه لقب «أمير المؤمنين»، و«سادس الخلفاء الراشدين»، والثمن تمكينها من المؤسسات والشركات العامة فأتت عليها نهباً وسلباً، ثم راحت تغوص في الدم وتقتل الخصوم إلى درجة أنها ساقت إلى المشنقة رجل دين عفيفاً طاعناً في السن، يدعى محمد محمود طه، وعندما فاض الكيل وتأجج غضب الشعب قفزت من مركب الحكم ونزلت إلى الشارع تشارك في إسقاط الأمير الخليفة، لكي تجد لها متسعاً في النظام الجديد ثم لا تلبث أن تدبر مكيدة يونيو 1989.
هنا تعود البزة العسكرية والجلباب الديني ويلقى بالشعب السوداني في بحر الدم، فقد شن النظام «الإخواني» حرباً ضارية على الجنوب حتى أجبره على الإنفصال، كما قتل 300 ألف في دارفور وشرد 3 ملايين، والبشير أنزل الرقم إلى 10 آلاف في حديث تلفزيوني، مجرد 10 آلاف!.
اليوم يقف البشير في قفص المحكمة متهماً بالفساد المالي وأرقام السيولة مذهلة، لكنها تسجل ساعة القبض عليه لترمز إلى أنه مؤشر فقط إلى المخفي والمجهول، لكن ماذا عن الجرائم الأخرى؟، ماذا عن الدم والخراب؟، وهل البشير وحده، أم إنه التنظيم الغارق في الرذائل؟
ذلك هو السؤال الحارق، وأما عن السؤال المربك فما الذي سيكون عليه الاتفاق الأخير؟
من غير شك أن قدرة السودانيين على عبور المطبات وتخطي الأشواك التي امتلأت بها الطرق بين 11 أبريل، و21 أغسطس عبأت بالأمل في أن يمضي السودان إلى المستقبل بثبات، غير أن الأمل لا يعني الثقة الكاملة بتخطي المصاعب، ففي السودان تعقيدات ورواسب من الماضي، وفيها ما انفكت جماعة «الإخوان» تسبح تحت المياه الملوثة، وهي تمتلك أساليب عجيبة للتمويه والتخفي من خلال تغير الألوان والأسماء.
لذلك يتوجب التنبه إلى المخاطر التي قد تأتي من هذه الحرباء، لكن الواجب الأول أن يستطيع السودانيون إدارة التنوع والخلافات والتوازنات للمرور من المرحلة الانتقالية إلى تجربة ديمقراطية لا ينقلب عليها العسكر منفردين أو معززين بالجماعة الدينية.
إن السودان تجربة ثرية يمكن أن نتعلم منها عبرة نصون بها المستقبل في العالم العربي، وهي أن لهذا البلد الطيب درس ينطوي على معانٍ تؤمن حياته بالخروج من صيف قائظ دام 30 سنة، ولديّ يقين بأن السودان جدير باجتثاث الخبث ويقدم بارقة أمل وإجابة صحيحة على السؤال المربك.
* نقلاً عن صحيفة (الخليج) الإماراتية