د. صادق القاضي
عبد الهادي العزعزي "حيٌ.. لا يُرزق"!
لا أدري كيف يتسلل "السُّكري" إلى شخصٍ مسكون بالمرارة ويسكنها ويتجرعها على الدوام، وكيف تنال "الذبحة الصدرية" من صدرٍ تكسرت عليه نصال الخصوم والأصدقاء على حدٍّ سواء.!؟
لكنه "عبد الهادي العزعزي"!
عبد الهادي رجل المفاجآت والمفارقات.. حالة نادرة من الصلابة والهشاشة، الاعتدال والتطرف، البساطة والتعقيد، الصراحة والكبت.. البلاغة والمبالغات.
كشخصية مثيرة للجدل، مشكلة عبد الهادي أنه معروف كالمجهول، ليس شخصاً استثنائياً. لكن من حقه كإنسان ومثقف وسياسي، أن يُفهم بشكل صحيح، وأن لا يتعرض لما يتعرض له، من التجنّي والتنميط و"التعريف بالإضافة" أي تصنيفه تابعاً لطرفٍ أو شخصٍ معين.
كعلماني ليبرالي مخضرم، معجب بعمر الجاوي، وقيادي في حزبه، يبالغ عبد الهادي، بالاعتداد بنفسه، وفرديته، واستقلال شخصيته، وبالتالي بردود أفعاله تجاه الإشاعات التي تجعله "معرفاً بالإضافة" وبالذات لـ"الإخوان"، أو "حزب الإصلاح البراني".!
يعبر هذا المصطلح الأخير عن لوبي كبير من العلمانيين: اليساريين والقوميين والليبراليين.. اليمنيين الذين يعملون لصالح "حزب الإصلاح" ويدافعون عنه من خارجه، كجيش رديف، على غرار "الجيش البراني" في عهد الإمامة.
ربما لا علاقة لعبد الهادي بهذا اللوبي، لكنه بوعي أو بدون وعي، يمارس هذا الدور، ولأنه يتحسس أكثر من غيره من هذه التهمة، يبالغ الآخرون بسلخه بسياطها.. بلا معرفة ولا رحمة.
في كل حال هذه ليست مشكلة عبد الهادي وحده. اليسار برمته فقد بوصلته منذ عقود، في اليمن، وأصبح في الأغلب مجرد قفازات وأقنعة لليمين الحوثي أو الإخواني أو السلفي.!
وحده عبد الهادي يمارس هذا الدور بلا مقابل، أعرف هذا جيداً، كما أعرف الرجل عن قرب، منذ سنوات طويلة، وعشت معه لفترة في شقة واحدة في مصر، زميلاً وصديقاً وشريكاً في إنشاء أول مجموعة رقمية لليبراليين في اليمن.
باستثناء قوله مرة عن نفسه إنه "حيٌّ لا يرزق" كان يبالغ في مشاركة الناس بشاشته، وكتم أوجاعه عن الآخرين. خاصةً بعد انقطاع منحته المالية لدراسة الماجستير في الجغرافيا النباتية.
فجأة، وهو يضع اللمسات الأخيرة لرسالته الأكاديمية، قرر، أو قررت ظروفه نيابةً عنه، أن يترك كل شيء وراءه، والعودة إلى اليمن. أواخر عام 2010.
ودعته يومها وأنا أشعر بالأسى والأسف والقلق على مستقبله، ولا أصدق أنه سيعود -كما قال- ليعمل فلاحاً في الأرض كأبيه وجده.
اختفت أخباره لأشهر، كما لو أنه مات، لكنه سرعان ما عاد مجدداً من بوابة ما تسمى ثورة 2011، مبالغاً في تمجيد وتقديس هذه الثورة، ومثيراً حوله عاصفة من المبالغات المتضاربة، حول إيجابيات وسلبيات شخصيته الثورية.
فجأة، ومرة واحدة، صدر قرار جمهوري بتعيينه "وكيلاً لوزارة الثقافة لشئون التراث اللامادي"، كان القرار حديث مواقع التواصل الاجتماعي، ليلتها. كمبالغة من "الشرعية" التي منحته منصباً ثقافياً رفيعاً يستلزم مؤهلات معرفية خاصة.
ما لا يعرفه الكثيرون أن هذا القرار لم يجلب على عبد الهادي غير الأعباء والمتاعب، فقد بالغت الشرعية في استغلاله وحرمانه من أي امتيازات أو مخصصات مادية ومعنوية محددة لهذا المنصب.!
نعرف هذه "الشرعية" جيداً، كيان مهترئ منخور بالفساد المالي والإداري.. وبلوبيات أنانية انتهازية تمكن أتباعها وأتباع أتباعها من العربدة بملايين الدولارات.. في حين لا يتجاوز مرتب عبد الهادي العزعزي -صدّق أو لا تصدّق- حوالي المئة دولار.!
يؤكد هذا أن فكرة عبد الهادي عن الشرعية مجرد فكرة مثالية خاصة، وأن علاقته بالإخوان، هي فقط، علاقة حب من طرف واحد، خاصةً وأن الطرف الآخر يقابل هذا الحب والوفاء بالكثير من الإهمال والتهميش والإجحاف والاستغلال.
هذا بحد ذاته كفيل بإصابة عبد الهادي بعدد لا بأس به من الجلطات والأزمات القلبية، كنتائج طبيعية لطعنات نافذة مع الخلف وصلت في تراكمها إلى النقطة الحرجة التي قصمت مؤخراً ظهر البعير.
عبد الهادي فارس نبيل. جبار في تضحياته، جبار في تحمله، لكن للصبر حدود، ففي مقابل كل تضحياته لم يتلقَ سوى الخيبة من الجميع: بدايةً بالإخوان، فضلاً عن خيبته مع "الشرعية" وهو الشرعجي المخلص، وخيبته مع "الثورة"، وهو الثوري النقي، وخيبته مع "المقاومة" وهو المهووس بها، والمتفاني في الذود عنها، والتعويل عليها في صناعة واقع أفضل.!
خيبات وصدمات وانكسارات من كل نوع، وظلْم وقهْر وغُلب من كل جانب:
"وفوق ذلك ألقى ألف مرتزقٍ
في اليوم يسألني ما نوع معتقدي
بلا اعتقادٍ.. وهم مثلي بلا هدفٍ
يا عم ما أرخص الإنسان في بلدي.!".