د. صادق القاضي

د. صادق القاضي

تابعنى على

في أربعينية الحزن: "سحَر عبده".. كسؤالٍ محرجٍ للحياة!

Friday 11 September 2020 الساعة 10:00 am

لم أستوعب بعدُ كيف يمكن لشاعرة وإنسانة وصديقة عظيمة مثل "سحر عبده".. أن ترحل عن عالمنا المجدب الشحيح بمثلها، قبل الآوان، في ذروة عطائها الفني والإنساني.!

لم أتوقع مثل هذه العبثية الفاجعة، ولا مواجهة مثل هذا التحدي: تحدي الكتابة من نقطة التباس الذات بالآخر. عن حالة إنسانية إبداعية بالغة الغربة والغرابة، والجموح والطموح، والفرادة والمأساوية..

الكتابة عن "سحر عبده" كتابة عن الكتابة في أجمل تجلياتها، وعن الإنسان في أنبل حالاته، وعن الذكريات في أحلى وأحلك ومضاتها رقياً ووجعاً وشراكة في الهموم الفكرية والأدبية والشخصية.

عرفتُ هذه المرأة قبل سنوات قليلة. عرفتني هي أولاً، أرسلت لي أحد نصوصها. لفت نظري بقوة، ودفعني دفعاً للبحث عن نصوص أخرى بمثل هذا التكثيف والتوهج والعمق والمناورات الكتابية.

سحر، أحد الأرقام النوعية الصعبة في الكتابة اليمنية المعاصرة. قدرة إبداعية مذهلة تتجاوز الحدود التقليدية للأجناس الأدبية إلى فضاءات تجريبية حافلة بالجدة والمفارقة والمخاتلة عن التوصيف والسيطرة.

هي فارسة شعرية بامتياز. وهذا الجانب جدير بدراسات مطولة لاستقصائه، ربما بعيداً عن ضغوط الجوانب الشخصية التي هي بالنسبة لي في هذا المقام، سيدة الموقف الكتابي.

يتهيأ لي أنني أعرف هذه السيدة منذ الطفولة. رغم أني لم أعرفها جيداً حتى الآن. فضلاً عن كونها ما تزال غير معروفة لدى أغلب النخب الإبداعية والنقدية والتذوقية.. في اليمن.!

من أول وهلة شعرت أنني أمام حالة فنية فريدة.. ومجهولة. وصرختُ: وجدتها. هكذا.. كما لو أنني، على غرار أرشميدس، قد قمت للتو باكتشاف أحد القوانين العلمية الباهرة.!

كنت مخطئاً. سحر.. ظاهرة سحرية لا يمكن اختزالها في قانون. كل ما قيل وما سيقال عنها هو محاولة متعسفة من هذا القبيل. محاولة لجعل هذا المزيج المذهل من البساطة والتعقيد قابلاً للفهم.. المستحيل.

كانت سحر مكسباً كبيراً بالنسبة لبلادها ولفنها.. ولكي يكون هذا واضحاً وقابلاً للقياس. ينبغي على كل من يهتم بالأمر. من أصدقائها، وهم مبدعون عموماً. العمل من أجل جمع نصوصها بين دفتي كتاب.

سيكون هذا عزاءً مناسباً. خاصةً وأن سحر. في مقابل أنها كانت مكسباً للجميع، وما تزال كذلك. بعد موتها، لم تكن مكسباً بالنسبة لنفسها خلال حياتها الصعبة. التميز الفذ كثيراً ما يشكل ورطة شخصية ووجودية لصاحبه.!؟

في الأساطير الأغريقية حكاية معبرة عن اجتماع الحظ والنحس في نموذج إنساني مأساوي واحد وهبته الآلهة نعمة النبوة، ثم. لمّا غضبت عليه. لعنته بجعل الناس لا يصدقون نبوءاته الصادقة.!

لطالما عاشت سحر أبعاد المرارات المترتبة عن هذه اللعنة. ودفعت ضريبتها باهظة من حياتها الاجتماعية والأسرية ووضعها المادي، وصحتها النفسية..

امرأة حداثية بكل هذه التميز والاختلاف والتمرد والثقة بالنفس وقوة الشخصية.. لا بد أن تكون مخيفة مرفوضة في بيئة رجعية غارقة في أردأ أشكال الاجترار والامتثال والتقليد.


غربة مأساوية مريرة يعيشها الأنبياء عادةً كبرزخ لا بد منه إلى الخلود. الأنبياء يظهرون على شكل كفرة غرباء، وقد يموتون على هذا الشكل، إن فشلوا لأسباب تتعلق بمجتمعاتهم نفسها. في مهمة التغيير.


الشعراء كذلك. "أنسي الحاج" أبرز رواد قصيدة النثر في الشعر العربي عاش مثل هذه التجربة. قال في خضمها: في مجتمع تقليدي متصلب من هذا النوع. "ليس أمام الشاعر الحداثي، من خيار، إلا الجنون أو الانتحار"!


سحر، اختارت الاثنين معاً: اختيار الحداثة في زمن محكوم بالقدامة هو ضرب من الجنون الخلاق، بينما التضحية بكل شيء في سبيل تحقيق الذات المبدعة، هي مجازفة أشبه بعملية انتحارية كاملة.!


"عقل كله منطق. خنجر كله نصل. إنه يجرح اليد التي  تستخدمه". لقد كانت سحر تحمل بين منكبيها مثل هذا العقل. وقد تعذبت به أكثر مما نتخيل.


باختصار. كانت سحر سؤالاً كبيراً محرجاً للحياة. وحده الموت تكفل بإجابته الناجزة. ضاقت أو ضاقت بها الحياة، فذهبت إلى السماء، إلى الآله القادر على حل هذه الأحجية العبقرية، وإضفاء سكينته على هذه الروح القلقة المعذَبة.