د. صادق القاضي
ماذا تبقى من ثورة 26 سبتمبر.. وبماذا ولماذا نحتفل؟!
عندما زار الزعيم "جمال عبد الناصر" مدينة تعز عام 1964م، سأل جندياً شاباً من الذين اصطّفوا لاستقباله: كم عمرك يا ابني.؟
أجاب الجندي: عامان.. هما عمر الثورة.
يؤكد البردوني: "لم يكن لليمنِ وجودٌ قبل ثورة سبتمبر. إن عمرَ اليَمَنِ هو عمر الثورة"، مشيراً إلى الحالة الانبعاثية التي أحدثتها الثورة الجمهورية في واقع الموات والغيبوبة الحضارية الطويلة لليمن في ظل الكهنوت الإمامي.
بهذا المعنى: مناسبة 26 سبتمبر ليست ذكرى ثورة، بل تاريخ ميلاد اليمن. أمّة بحضارة مجيدة، وتاريخ عريق.. أمة ماتت مراراً وانبعثت مراراً، وانتفضت كطائر الفينيق من رمادها، واستعادت ذاتها في مثل هذا اليوم.
على أن ذلك الموت الكهنوتي والانبعاثة التحررية، ليسا الأخيرين من نوعهما، وفي الواقع سرعان ما حفّت أسباب الموت بجسد تلك الثورة، منذ البدء، من الداخل والخارج، متمثلةً بالقوى الرجعية التي تطفلت على الثورة أو حاربت ضدها.
مرت في النهر مياه ودماء غزيرة، كما حدثت الكثير من الأخطاء والفشل والانتكاسات.. من حينه حتى اليوم. ضمن عملية عدمية لا تتعلق بالضرورة بالثورة والنظام الجمهوري.
للعملية علاقة بالبيلوجيا في صراع الجسد والمرض، وتطور المناعة والأوبئة.. أكثر من علاقتها بالديالكتيك المادي في "وحدة وصراع الأضداد".
نحن في الألفية الثالثة، الخلافة والإمامة.. لم تعد أنظمة منافسة للنظام الجمهوري، وحتى في إطار النسبية، المؤكد على المحك العملي أن "التجربة الجمهورية". في أسوأ حالاتها. كانت أفضل من "العهد الإمامي" في أفضل تجلياته، فضلاً عن تجليات نظام الخلافة في أفغانستان والصومال.
ومع ذلك. علينا أن نواجه الواقع بواقعية وصدق ونعترف بشجاعة: اليوم. لم يبقَ شيء من ثورة 26 سبتمبر 1962م، أو النظام الجمهوري الذي وضعت مداميكه في اليمن.!
القبيلة السياسية، والإسلام السياسي، والفساد، والاستبداد، والأيادي الخارجية.. نسفت كل شيء باستثناء مراسيم شكلية لا علاقة لها بالواقع.
هذه القوى قتلت الثورة وحنطتها وحولتها إلى صنم للتقديس الانتهازي، والنفاق والمداهنة والتقية السياسية.
لم يعد هذا الشكل الجمهوري المفرغ من محتواه، يخيف القوى الكهنوتية المعادية، بل على العكس، يوفر لها القناع العصري المقبول الذي تحتاجه بشدة لتقديم نفسها إلى الشعب من خلاله.
وعلى هذا الأساس هي تحتفل وتبالغ بالاحتفال بذكرى ثورة سبتمبر:
الإخوان. من جهتهم يحتفلون بذكرى هذه الثورة التي حاربوها من أول يوم، وقامت أصلاً ضد الظواهر الكهنوتية التي يمثلون أحد أخطر تجلياتها.!
احتفلوا بها مناكفة للقوى الإمامية العائدة التي بدورها احتفلت بالمناسبة على سبيل التقية والمناورة السياسية.!
وهكذا تحولت الاحتفالات بثورة 26 سبتمبر. في جزء كبير منها إلى استعراضات مغرضة مفرغة المحتوى.. وتتم ببجاحة على أنقاض حطامنا الجمهوري.!
لكن. في أسوأ الأحوال. لا يخلو الأمر من بعض الإيجابيات:
هذه الاحتفالات الانتهازية شهادة لثورة سبتمبر: أكبر شهادة لعظمة ثورة أن يحتفل بها حتى أعداؤها.!
وقبل كل شيء وبعده، هناك شعب كامل، بات خارج كل الحسابات الفئوية المتسلطة، ويحتفل بصدق وإيمان بثورة 26 سبتمبر، ويفترض أن تتم هذه الاحتفالات:
ليس بالرماد الذي أصبح من الماضي، بل بإحياء الشعلة الخالدة الملهمة لتلك الثورة المجيدة، والعمل على التحرر من القوى والظواهر التي أجهضتها، والأمل باستعادة قيمها النبيلة في المستقبل.