د. صادق القاضي
عن الإمامة والمجاعة واليمن التي كانت تصدّر القمح.!
متى كانت اليمن تصدر القمح.؟!
بعضهم يقول: في عهد الإمام يحيى، وبعضهم يقول: في عهد الإمام أحمد.!
ولمن كانت تصدره؟!
بعضهم يقول: لألمانيا، وبعضهم يقول: لروسيا، وبعضهم يقول: للسعودية.!
والتاريخ يقول:
كان الفقر والشحة والحاجة والجوع.. هي أبرز ملامح اليمن طوال العهد الإمامي. كانت المجاعة تداهم الشعب اليمني بشكل دوري كل بضعة أعوام.!
من حسن الحظ. هناك وثائق تاريخية كثيرة متنوعة عن ذلك العهد: صور وأفلام وثائقية، معاملات دولية، كتب رحالة، بجانب الذاكرة الشعبية التي ما زالت حية ومتخمة بالفجائع عن أهوال ذلك الزمان الجائع.!
يحكي المعمرون قصصاً يشيب لها الولدان عن مجاعات أيام الإمام: في كل مرة. كان الناس يضطرون بعد بيع كل ما يمكنهم بيعه من مقتنيات، لأكل رأسمالهم. من المواشي: أبقار أو أغنام أو جمال، أو بيع أراضيهم، وهي أهم وأعز ما يملكون. لملء بطونهم وبطون أطفالهم الخاوية.!
كان هذا البيع الاضطراري، حينها، يتسبب. بذاته، أو بحق "الشفعة" "حق الأقارب باسترداد الأرض". بكثير من الإشكالات، وإلى ذلك أشار "الإمام أحمد" في أرجوزته الشهيرة، وفيها:
ولا يجوز "الشّفع" في المجاعة.. محرمٌ حتى قيام الساعه!
هذا البيت وثيقة تاريخية دامغة على المجاعات في ذلك العهد، واضطرار الناس خلالها لبيع كل ممتلكاتهم وصولاً إلى التضحية الإجبارية برؤوس أموالهم ومصدر دخلهم، من المواشي والأراضي.
وفي الواقع كان بعضهم يضطر لبيع أكثر من مجرد الأرض. وصولاً إلى بيع العرض، الجوع كافر. وهو ما وثقه الكاتب المؤرخ "أمين الريحاني" في كتابه "ملوك العرب". الذي ضمنه المؤلف تفاصيل رحلته إلى اليمن عام 1922م.
خلال هذه الرحلة التقى هذا الأديب والمؤرخ الشهير. عندما وصل إلى ذمار. أمير الجيش هناك. السيد "عبد الله الوزير"، قال: سمعناه يقول:
"هذه بلادنا وهي بفضل حضرة الإمام بلاد العدل والدين والصدق والوفاء. الحكم العادل تراه عندنا في اليمن، فلا خمر ولا فسق ولا زنى.. كل ذلك لأننا محافظون على ديننا، عاملون بكتاب الله، مجاهدون في سبيله تعالى".
كان الريحاني قد عرف، حتى من قبل أن يصل اليمن، أيّ جحيم أصبحت هذه البلاد الحضارية العريقة في ظل حكم الإمام يحيى، وأضحكته مزايدات الأمير عبد الله الوزير، خاصةً فيما يتعلق بالقضاء على الفسق والزنا، فالفقر مأخور، والجوع قوّاد يدفع النساء دفعا لبيع أجسادهن بأرخص الأثمان.. يقول:
"أضحكني من الأمير.. ذلك لأننا في إحدى الليالي السابقة، جاءت المرأة التي طبخت لنا العشاء، تعرض نفسها علينا بثمن فسطان من الشيت، وقد قال لنا أحد العساكر بعد أن خرجنا من ذمار: لولا رفيقكم السيد لكانت النساء تجيئكم في كل سمسرة."! (أمين الريحاني. ملوك العرب، الجزء الأول، دار الجيل، بيروت. ط٨، ١٩٨٧م. من ص ٧٥ : ٢٢٤.).
كانت الحاجة تضطر الناس أحيانا وفي بعض المناطق إلى أكل ما لا يؤكل من الحيوانات والنباتات، كانوا يأكلون حتى الحمير والكلاب والفئران، ويغلون بعض الأشجار المُرة والشائكة أو السامة ويأكلونها ويتقوون بها أمام الموت.!
ومع ذلك. كانوا يتساقطون موتى في الطرقات من الجوع، يتحدث بعضهم عن سنة، فى عهد الإمام يحيى، سموها سنة "الفناء" راح ضحيتها نصف سكان اليمن من شدة الجوع، كان يموت من كل بيت نصفه أو كله.!
هناك صور قديمة نادرة ليهود يمنيين، في عهد الإمام يحيى، أصبحوا جلداً على وضم من الهزال، بسبب الجوع. لا يجوع اليهود في أي بلد إلا وقد سحقت المجاعة بقية الفئات الأخرى.!
في المحصلة. كل الدلائل تؤكد حقيقة أن اليمن لم تكن تصدر القمح في ذلك العهد، وعلى العكس، كانت، في آخر سنواتها، تستقبل المساعدات والإغاثات الإنسانية، كانت بواخر الإغاثة ترسو في الحديدة أو المخا. وحينها عرف اليمنيون لأول مرة. الرز والدقيق..
وبشكل رسمي. فقد طلب الإمام أحمد مساعدة الأمم المتحدة في خمسينيات القرن الماضي لمواجهة الجوع، وهي خطوة إيجابية تحسب له، مقارنةً بالطريقة الإمامية التقليدية في التعامل مع المجاعات:
ترك الناس تموت جوعاً بصمت في بلد مغلق ومعزول تماماً عن العالم.
إذن. كان الجوع هو سيد الموقف. طوال تاريخ الإمامة. والسؤال المهم. هنا ودائماً:
ما هو سبب حدوث كل تلك المجاعات في بلد خصب متعدد البيئات ولا يتجاوز عدد سكانه الـ5 ملايين نسمة؟!
الإجابة الإمامية هي بسبب الذنوب والمعاصي، أو القضاء والقدر.! أمّا أقرب الإجابات التقليدية إلى المنطق فهي: شحة أو عدم نزول الأمطار في بعض السنوات.!
لكن ما هو مؤكد. بأكثر مما يكفي في الشواهد والقرائن:
- أنه لم يحدث أن ضرب الجفاف، وبالتالي المجاعة. اليمن كلها في وقت واحد.
- وأن بعض المناطق اليمنية في عهد الأئمة كانت تفيض بالحبوب، في الوقت الذي تسحق فيه المجاعة مناطق أخرى.
- وأن اليمنيين كانوا يموتون جوعا بينما كانت مخازن الإمام يحيى مليئة بالحبوب.!
- وبشكل عام. لم يحدث أن كانت اليمن كلها في زمن المجاعات الإمامية خالية من الطعام.!
مع الأخذ بالاعتبار:
- أن مواسم جفاف كثيرة ضربت اليمن خلال العهد الجمهوري، أحيانا لعدة سنوات في مناطق واسعة، لكن لم تحدث مجاعة، ولم يمت أحد من الجوع.!
- وأن اليمن، للأسف، دخلت مؤخراً، ومنذ سنوات في إحدى أسوأ المجاعات على امتداد التاريخ والجغرافيا، بينما معدل الأمطار أعلى من نسبته الطبيعية.!
هذا يعني أن لتلك المجاعات التي كانت تحصد أرواح اليمنيين بمئات الآف، في كل مرة.. سببا آخر أهم وأعم وأكثر فظاعة. من تقلبات المناخ وأحوال الطبيعة، ويتعلق بالضرورة بالنظام السياسي الحاكم، وسوء إدارته لموارد البلاد.!
نعم: "النظام السياسي الحاكم، وسوء إدارته لموارد البلاد".
هذا السبب هو وراء أكثر من 95% من المجاعات في العالم، حسب الخبراء. على رأسهم الفيلسوف وعالم الاقتصاد الهندي الكبير: "امارتيا صن"، في كتابه. "التنمية حرية"، وفيه أكد هذا الخبير الاقتصادي العالمي على هذا السبب وراء مجاعات اليمن خلال العهد الإمامي. مضيفاً:
حصدت المجاعة مرة ما يزيد عن 30% من سكان اليمن، في إحدى أكبر النسب لضحايا المجاعة في التاريخ البشري.!
هذه هي الحقائق التاريخية المرعبة التي يحاول أنصار الإمامة، محوها بسرديات خيالية متضاربة عن نعيم وهمي كان يغمر اليمن في عهد الأئمة، ويفيض بالخير على دول وشعوب أخرى كانت محتاجة جائعة.!
في ذلك العهد. لم تكن أيٌ من الدولة المشار إليها أعلاه محتاجة أو جائعة، واليمن فقيرة جائعة لا تصدّر شيئا للعالم، غير حبوب البن، وبالمناسبة يمكن الحديث بموضوعية عن تصدير اليمن للبن. وعن شهرتها التاريخية في هذا الجانب.
لكن هذا لا يخدم الأجندة السياسية للقائمين وراء إشاعات "تصدير القمح"، وسردياتهم، وحمولاتها السياسية والأيديولوجية التي تستهدف العوام بالتحديد، بغرض تجميل الوجه الإمامي البغيض، وتزوير تاريخ أسود مكتظ بالمجاعات المروعة.!