تحليل: إيران تعيد تشكيل أدواتها في اليمن والعراق عكسريًا بدعم روسي- صيني
السياسية - منذ 7 ساعات و 19 دقيقة
واشنطن، نيوزيمن، خاص:
قال معهد الشرق الأوسط الأمريكي (MEI) في دراسة تحليلية جديدة أعدّها الباحث الإيراني الأصل رضا بارشيزاده، إن ما يُعرف بـ"محور المقاومة" الذي تقوده طهران في الشرق الأوسط خصوصًا في اليمن ولبنان والعراق دخل مرحلة إعادة تشكّل شاملة بعد الحرب الإسرائيلية–الإيرانية القصيرة في يونيو/حزيران 2025، والتي استمرت 12 يومًا وامتدت من الساحات السورية إلى اليمنية واللبنانية.
ووفقًا للتحليل، فإن حالة الهدوء النسبي التي تلت الحرب لا تعبّر عن تراجع المحور، بل عن مرحلة تكيف استراتيجي تشهد إعادة هيكلة ميدانية وتنظيمية، تشمل تطوير أدوات التمويل والقيادة الأيديولوجية وتوسيع الشراكات مع قوى دولية منافسة للغرب كروسيا والصين.
خمول استراتيجي وتمويل المزدوج
ويرى معهد الشرق الأوسط أن طهران ووكلاءها الإقليميين — من حزب الله اللبناني إلى الحشد الشعبي العراقي والحوثيين في اليمن — دخلوا مرحلة من الخمول الاستراتيجي المقصود، هدفها استعادة التوازن بعد الضربات التي تلقاها المحور خلال المواجهة مع إسرائيل. ويصف التحليل هذا الخمول بأنه "سكون تكتيكي" لا يعني توقف العمل، بل نقل النشاط إلى مستوى أكثر عمقًا في البنية التنظيمية والعسكرية والاقتصادية.
ففي لبنان، ورغم الإجراءات الحكومية لمصادرة الأسلحة غير الشرعية، أعاد حزب الله بناء ترسانته جنوب الليطاني عبر الممرات السورية، وأطلق ما أسماه "إعادة الإعمار الصناعي"، وهي عملية تهدف لتوطين تصنيع السلاح داخل لبنان. وقد ضخّ الحزب نحو 400 مليون دولار في برامج إعمار ودعم اجتماعي لتعزيز قبضته في مناطقه الشعبية.
وفي العراق، تطبّق إيران نسخة معدّلة من نموذج حزب الله عبر دمج ميليشيات الحشد الشعبي في مؤسسات الدولة، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع شركات صينية تمنح غطاءً قانونيًا لتمويل وتسليح هذه القوات تحت شعار "إعادة الإعمار الوطني".أما في اليمن، فتواصل طهران دعم جماعة الحوثي بالمعدات العسكرية والتقنية، رغم الجهود الأمريكية لاعتراض الشحنات، في سياق ما يصفه المعهد بأنه "تحوّل من الصراع المفتوح إلى ترسيخ طويل الأمد للنفوذ عبر بنية اقتصادية–عسكرية مدمجة".
ويشير معهد الشرق الأوسط إلى أن طهران نجحت في إعادة ابتكار منظومتها المالية لتأمين موارد "محور المقاومة" بعد العقوبات الغربية، عبر شبكة من الشركات الواجهة والاقتصادات الرمادية.
ووفقًا لتقديرات المعهد، تُحوِّل إيران ما بين 8 إلى 10 مليارات دولار سنويًا من عائدات النفط المهرب إلى فيلق القدس وميليشياته، عبر وسطاء في الخليج وشرق أفريقيا وآسيا، بينما تُستخدم مشاريع البناء وإعادة الإعمار في لبنان وسوريا والعراق كغطاء لتبييض الأموال وتحويلها إلى الوكلاء.
ويُضيف التحليل أن المحور طور خلال السنوات الأخيرة أدوات تمويل رقمية تعتمد على العملات المشفرة والتجارة غير الرسمية بالذهب والمخدرات والماس، ما أوجد اقتصادًا لا مركزيًا مرنًا يصعب تتبعه أو تعطيله بالعقوبات.
ويصف بارشيزاده هذا التحول بأنه "اقتصاد مقاومة موازٍ"، لا يخضع لمنطق السوق أو الدولة، بل لمنطق الصمود الأيديولوجي، ما يمنح طهران ووكلاءها قدرة على تمويل أنفسهم دون الحاجة إلى قنوات مصرفية تقليدية.
مظلة روسية وصينية
ويؤكد التحليل أن روسيا والصين أصبحتا الركيزتين الأساسيتين في استراتيجية إيران بعد حرب يونيو 2025. فبينما تقدم موسكو الدعم الدبلوماسي والعسكري، وتستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية طهران ووكلائها، تتولى بكين تجديد القدرات الصناعية والتقنية للنظام الإيراني.
ويشير الباحث الإيراني بارشيزاده إلى أن الصين زوّدت إيران بعد الحرب بمكونات حساسة ذات استخدام مزدوج، مكنت طهران من استعادة قدراتها في تصنيع الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، لتصبح بكين "الشريك الدفاعي غير المعلن" للجمهورية الإسلامية. أما روسيا، فوفّرت غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا، وأمدّت وكلاء إيران في سوريا واليمن بأسلحة متقدمة، كما ساعدت في تعزيز حضور الحوثيين وحزب الله في المفاوضات الدولية باعتبارهم أطرافًا سياسية لا مجرد جماعات مسلحة.
ويرى التحليل أن هذا الدعم الروسي–الصيني عزز من مناعة المحور الإيراني أمام الضغوط الغربية، وأعطاه عمقًا استراتيجيًا جديدًا يتجاوز الشرق الأوسط إلى المسرحين الأفريقي والآسيوي.
وعلى الصعيد الفكري، يشير معهد الشرق الأوسط إلى أن النظام الإيراني أجرى تحولًا أيديولوجيًا عميقًا في خطابه الداخلي والخارجي بعد الحرب. فمنذ 2024، ركّز خطاب المرشد الأعلى علي خامنئي على ربط فكرة المقاومة بـ"الإنتاج المحلي والعمل الجماعي"، معتبرًا أن الصبر الاقتصادي هو شكل من أشكال الجهاد.
ويصف بارشيزاده هذا التحول بأنه "إعادة تسويق للمحنة"، حيث يتم تقديم الأزمات الاقتصادية كاختبار إيماني، وتُعاد صياغة المقاومة لتصبح مشروعًا مجتمعيًا أكثر من كونها مشروعًا عسكريًا. وقد صدّر النظام هذا المفهوم إلى حلفائه، فبات حزب الله يتحدث عن "الاقتصاد المقاوم"، والحوثيون عن "الاكتفاء الذاتي" كجزء من العقيدة الجهادية.
ويقول التحليل إن هذه الأدلجة الاقتصادية تتيح للنظام تجاوز الإحباط الشعبي من العقوبات، وتمنح شرعية جديدة لسياسات الإنفاق الخارجي على الميليشيات تحت غطاء ديني–وطني.
تحديات داخلية
ورغم هذا البناء الأيديولوجي المحكم، يشير المعهد إلى أن الضغوط الاقتصادية الداخلية في إيران تتفاقم، وأن المجتمع الإيراني بدأ يظهر علامات ضجر من تكلفة تمويل الحروب بالوكالة. وتكشف استطلاعات رأي أجراها المعهد أن نسبة الإيرانيين المؤيدين للإنفاق الخارجي على الميليشيات انخفضت إلى أقل من 30%، فيما تصاعدت الأصوات داخل الإعلام شبه الرسمي التي تتحدث عن "الاستنزاف المالي للمحور".
ومع ذلك، لم تقلّص طهران الدعم فعليًا، بل أعادت توجيهه عبر شركات الحرس الثوري الاقتصادية مثل "خاتم الأنبياء"، التي أصبحت الذراع المالية الرئيسية لتمويل مشاريع الإعمار الداخلية والخارجية لتوليد موارد بديلة غير خاضعة للرقابة الرسمية.
ويُبرز التحليل أن "محور المقاومة" لم يعد منظمة هرمية تديرها طهران بشكل مباشر، بل تحول إلى شبكة لا مركزية مرنة ترتكز على "عقد" ميدانية في لبنان والعراق واليمن وسوريا، تتبادل الموارد والخبرات ضمن إطار من الردع المشترك.
ويقول المعهد إن هذا الشكل الجديد من التنظيم يمنح المحور قابلية بقاء طويلة الأمد حتى في حال تعرض إيران لهجمات مباشرة، لأن كل عقدة في الشبكة باتت تمتلك قدرًا من الاستقلال المالي والعملياتي.
وأشار التقرير إلى أن التعاون بين الحوثيين وحزب الله والحشد الشعبي بلغ مستويات غير مسبوقة في التدريب والتسليح، بل امتد إلى علاقات تنسيق مع جماعات في القرن الأفريقي مثل حركة الشباب الصومالية، ما جعل اليمن مركزًا لوجستيًا محوريًا لعمليات المحور.
وفي المقابل، رصد معهد الشرق الأوسط تصاعد التحركات الغربية والعربية لاحتواء المحور الإيراني. فقد دعت الولايات المتحدة وفرنسا إلى نزع سلاح حزب الله في لبنان، فيما فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات جديدة على شبكات التمويل التابعة له.
وفي العراق، تضغط واشنطن على الحكومة للحد من نفوذ الحشد الشعبي، بينما تركز دول الخليج على حماية أمن البحر الأحمر وممرات التجارة الدولية من تهديد الحوثيين دون الانجرار إلى مواجهة شاملة. لكن المعهد يرى أن هذه الجهود ما تزال تفتقر إلى الاتساق، لأن إيران بنت شبكتها على اقتصاد ظلٍّ غير رسمي يتجاوز نطاق العقوبات، ويستفيد من هشاشة الدول المضيفة لوكلائها.
من العقوبات إلى التفكيك البنيوي
دعا معهد الشرق الأوسط الإدارة الأمريكية إلى مراجعة استراتيجيتها تجاه إيران، معتبرًا أن مرحلة ما بعد حرب يونيو 2025 تتطلب الانتقال من سياسة العقوبات الكلاسيكية إلى نهج تفكيكي أكثر استدامة يستهدف البنية المالية والفكرية للمحور.
وشدد المعهد على خمس ركائز أساسية: استهداف البنية المالية للشبكة عبر تتبع الشركات الواجهة باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، تعزيز مؤسسات الدولة الوطنية كبديل عن الميليشيات في الدول المتأثرة. ومواجهة الخطاب الأيديولوجي الإيراني بخطاب تنموي يربط الاستقرار بالازدهار لا بالمقاومة. وتوحيد الموقف الغربي في البحر الأحمر لمنع الرسائل المتناقضة تجاه الحوثيين، وإنشاء مرصد استخباراتي مشترك لرصد نشاط الوكلاء الإيرانيين وشبكات تمويلهم في أفريقيا وآسيا.
ويختتم التحليل بالقول إن "محور المقاومة لم ينهَر بعد حرب الأيام الاثني عشر، بل يعيد تموضعه ضمن قواعد جديدة للّعبة الإقليمية". ويرى بارشيزاده أن هذا الهدوء الظاهري ليس إلا هدوءًا ما قبل العاصفة الثانية، حيث تتحول طهران من نموذج "الثورة المقاتلة" إلى "الثورة المتكيفة"، القادرة على البقاء عبر المؤسسات والاقتصاد والرمزية الدينية.
ويحذّر الباحث من أن إيران، حتى في حالة الحصار، ما تزال تمتلك الأدوات لإعادة إنتاج نفوذها، وأن تجاهل هذا التحول البنيوي سيجعلها تعود أقوى في جولات الصراع القادمة.
>
