وصاب وتهامة.. قصَّة الجبل والبحر

السياسية - Monday 25 February 2019 الساعة 10:18 am
عدن، نيوزيمن، تقرير خاص:

لا تزال حصة وصاب من القمح والغاز تأتي من نصيب محافظة الحديدة وليس عبر ذمار المحافظة التي تتبعها وصاب إدارياً، بل إن مناطق بوصاب السافل تحديداً تتبع الحديدة قضائياً.

في نهاية العهد الحميري أقام الشراحيون الحميريون دولتهم في مدينة العركبة التاريخية بوصاب العالي، ومدوا نفوذهم إلى ريمة شمالاً، وعتمة شرقاً، وتهامة غرباً، كامتداد طبيعي للجبل نحو الساحل الطريق إلى العالم.

في المقابل عندما أعلن علي بن مهدي دولته في تهامة، واستنجد اليمنيون بالقائد الأيوبي لإنقاذهم من جوره وبطشه، تحصّن في حصن الشرف المطل على تهامة غرب وصاب، وعندما جاء طغتكين وجنوده في أول حملة أيوبية على اليمن، قاد القراضي من وسط وصاب حملة قوية استطاع بها هزيمة الجيش الأيوبي جوار زبيد، ليؤكد أن الجبل يبادل السهل منافعه وثقافته.

اجتمع حوله حكماء وصاب ونصحوه بتصحيح خطئه، لأن الأيوبيين لديهم من القوة ما يكفي لغزو وصاب والانتقام منه، ولن يفيده حينها ابن مهدي الذي لا ينتمي لوصاب، ولكنه قد يدمرها بتوريطه لها في حرب غير متكافئة، فقام القراضي بالاعتذار للأيوبيين والسماح لهم بمواصلة معركتهم التي قضت على ابن مهدي وسيطرت على تهامة بسهولة.

ومن المفارقات التاريخية، أن ابن مهدي اتبع نفس وسائل الحوثي اليوم في جلب الأتباع ومعاقبة المخالفين، واستنزاف الموارد، وادعاء القداسة، وكان الاستنجاد بالأيوبيين للقضاء عليه قائماً على دوافع مذهبية، تم استغلالها لتحريض الأيوبيين ضده بعد قيام دولتهم على حساب الدولة الفاطمية (شيعية المذهب).

وعندما عرفت وصاب طرق السيارات، فقد دخلتها تلك الطرق من الغرب ومن جهة الحديدة والجراحي التابعة لها، ولم تأت من ذمار التي ضُمت إليها بشكل تعسفي، فحتى السبعينات كانت شهادات طلاب وصاب المدرسية تعمد في (لواء رداع) بالبيضاء، وتم بعدها ضمها لذمار لموازنة الإيرادات، من منطقة ريع وعسل وفير، لكنها تبعد عنها أكثر من الحديدة جغرافياً واجتماعياً وثقافياً.

درس علماء وصاب الأفذاذ من القضاة وعلماء الرياضيات والفلك والصرف والعروض على يد علماء زبيد، وتبعوا مدرستها الدينية الصوفية، حيث كان القادرون منهم على طلب العلم يتوجهون إلى زبيد حتى قيام ثورة سبتمبر 1962 التي حولت وجهة بعضهم إلى صنعاء والبعض الآخر إلى الحديدة.

في الحديدة تركزت تجارة البحار في يد عدد من أبناء وصاب كالخادم غالب الوجيه الذي دفع فدية تقدر بـ (100 ألف ريال فرانصي) لرفع سيف الإمام أحمد عنه بالعفو، وهو التاجر الأكبر نشاطاً في اليمن، ولم ينافسه إلا الوكيل التجاري للإمام يحيى بالحديدة حينها، وكان الوجيه ينقل المراسلات بين ثوار 1948 بصنعاء وعدن بحكم سهولة انتقاله كتاجر، لكن سيف الإمام أحمد كان أقرب إلى عنقه، حيث نفذ الإعدام عندما علم بأن ابنه محمد الخادم الوجيه وأخاه أحمد في طريقهما إلى حجة بقافلة من الأموال، وأنهما نجحا في تلبية شرطه التعجيزي بفدية مالية ضخمة للغاية، لم يعودا إلا بجزء منها.

كان مركزهم التجاري في الحديدة، وشكّل آل الوجيه والمصباحي والحطامي عمود تجارة البحر وملاك سفنه، وملوك عقارات الساحل الزراعي في سفوح وادي زبيد ووادي رماع، واشتهرت منازعات الإمام يحيى لآل المصباحي أراض زراعية واسعة في تهامة، قبل أن يحكم قاضي المحكمة لصالح المصباحي ضد الإمام، ولا زال لهم نشاط تجاري ضخم حتى اليوم.

قال عبدالله البردوني، إن الناس يعتقدون أن شاعر المديح النبوي الأول عبدالرحيم البرعي ينتمي إلى منطقة برع نتيجة لقبه، لكن الحقيقة أنه من منطقة السانة في مخلاف نقذ بوصاب العالي، وهي نفس المنطقة التي ينحدر منها السانة مؤلف كتاب الإعلام الذي يعد واحدة من معجزات الفكر والتأليف باحتوائه على علوم اللغة والدين وغيرها في كتاب واحد يمكن قراءته من اليمين إلى الشمال والعكس وفي كل مرة تحصل على سياق متكامل لعلم من العلوم، وكان من محاسن إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية أن أخرجت هذا الكتاب إلى النور عام 2004، وعلى مقربة منها في مخلاف جعر توجد قرية الحبيشي مؤلف تاريخ وصاب، وما زالت أسرة الحبيشي تعيش هناك حتى الآن، وأسماء الأسر كالبرعي والحبيشي والخولاني والسدح والذماري في وصاب تدل على أنها كانت مركزاً حضارياً مستقراً وجاذباً للسكان من خارجه.

كانت وصاب مصنعاً حرفياً لتهامة التي تستورد منها بالمقابل احتياجاتها الأخرى، فصناعات الحلوى والمعاوز، وتجارة العسل الوصابي الشهير، لا زالت حتى الآن مستمرة رغم تراجعها مؤخراً.

قبل قرون من الزمن كان هناك من كتب تاريخ الأماكن في اليمن تاريخ صنعاء، وتاريخ زبيد، وكان ثالثهما كتاب تاريخ وصاب لعبدالرحمن الحبيشي الوصابي، وكانت وصاب في كتاب صفة جزيرة العرب قد وصفت من قبل الهمداني بأنها أرض لا سلطان لأحد عليها، لشدة أهلها وجبالها، وأهل وصاب لم يكونوا ليخوضوا أي حرب في مواسم الزراعة، فقد كانت كل صراعاتهم تدار في فصل الشتاء فقط عندما يفرغون من حصادهم، وأجبر الإمام يحيى بعض أبنائها على المشاركة في حربه ضد الزرانيق بتهامة، لكن قلة منهم استجابت له.

يدرك أهل وصاب هذه الحقائق أو بعضها على الأقل، وتربطهم بتهامة والحديدة علاقة الشجرة بجذورها، والأغصان بأوراقها، فالمغترب الوصابي كان يرسل تحويلاته إلى بنك شولق/الشرق بالحديدة وليس إلى صنعاء، ويشتري أراضيه ويبني مساكنه هناك على مقربة من البحر.

صاحب مراكز سيتي ماكس الشهيرة بنى فرعه بالحديدة وعانى من ابتزاز كثير من النافذين من قبائل الشمال والشرق، لكنه لم يستسلم كما استسلم الوصابي الآخر صاحب أرضية واسعة قريبة من مركز سيتي ماكس بشارع صنعاء، هناك باتجاه شارع 7 يوليو يمكنك أن ترى أرضية بسور واسع تنتصب في محيطه (301) عمود خرساني، وهو نفس العدد الذي يتكون منه أعضاء البرلمان اليمني دستوريا، ذلك أن يحيى علي الراعي رئيس ذات البرلمان هو من نهب أرضية الوصابي قبل أن يُصاب الأخير بسكتة قلبية قهراً من عدم إنصافه من نهب رئيس البرلمان لأرض أخذت أغلب ثروته من غربته الطويلة، قيل مؤخراً إن الراعي باع تلك الأرض ولكن ذلك لم يتأكد بشكل يمكن البناء عليه.

في آخر حكومة شكلها الدكتور عبدالكريم الإرياني، تقدم أبناء وصاب بطلب إعلان زبيد محافظة جديدة وضمهم مع عتمة إليها بدلاً عن ذمار لعدة اعتبارات ليس مجالها هنا، مرتبطة بالجغرافيا أكثر من الثقافة والتاريخ، لأن الحديث عن الثقافة المناطقية المختلفة كانت من محرمات عهد صالح.

لم تتم تلبية ذلك الطلب، فصالح لم يكن يلبي مطالب المناطق التي تميل إلى السلم بعد كل تجربة حرب، فقد أنهى زيارته في ميدان عتمة، عندما سأل عن الجبال المقابلة لها من الغرب وقيل له إنها وصاب، علق ساخراً، حسب بعض مرافقيه (وصاب أو عدن الصغرى؟)، وهو يتذكر حروب الجبهة في المناطق الوسطى، وحطام طائرة محمد علي صالح، مندوبه للحوار الوطني مع جبهة وصاب عام 1982 ترقد في مغربة صعر بمخلاف كبود على بُعد أقدام من مكانه في ميدان عتمة.

لم يكن موقف صالح جديداً أو مختلفاً عن موقف سنان أبو لحوم في عهد القاضي الإرياني، فقد وجه الأخير محافظ الحديدة (سنان أبولحوم) بضم وصاب إدارياً إليها، لكنه رفض بدعوى أنهم يسيطرون على اقتصاد الحديدة وليسوا من أهلها ولا يحتاج إليهم كمواطنين في إقطاعيته الباذخة هناك قبل أن يغادرها في عهد الحمدي، وهو من أصر على رأيه باستهداف قبائل الزرانيق وإخضاعهم بقصف الدبابات والمدافع رغم أنهم حاربوا الإمامة قبل أن يعرف الجمهورية، فهكذا تؤثر قرارات ومواقف الأشخاص على حياة ملايين غيرهم في غفلة من العدالة ومن دروس التاريخ.

امتد نفس الموقف إلى عبدربه منصور هادي، ورفض لقاء أبناء وصاب قبيل اندلاع الحرب الراهنة، وأمر قوات الأمن بتفريق مظاهرتهم في جولة عصر ونقلها للتحرير عندما أصروا على إعلان محافظة جديدة مركزها زبيد، وتضم وصاب وعتمة بعد إعلان ريمة محافظة مستقلة قبلها بسنوات.

على الأرجح، فإن اليمن تحتاج وصاب وأبناءها كقوة منتجة وسلمية، فهي رغم إرادتها وصلابتها ترفض الانخراط في حربين متواليتين، وكأن كل جيل يكتفي بتجربة موت واحدة، وقد أخذت وصاب نصيبها في حروب المناطق الوسطى، وهاجر أبناؤها إلى كل شبر في اليمن، وكل دولة في الخليج بحثاً عن أرزاقهم بعيداً عن السلاح وانتقام المركز منهم بعد حروب الجبهة.

قال الجهاز المركزي للإحصاء، إن سكان وصابين قرابة 300 ألف في تعداد 2004، لكن من يسكن وصاب ليس أكثر من ثلث أبنائها على أكبر تقدير، فمن يسكنون الحديدة وصنعاء والسعودية وتعز لا يقلون عن ضعفي من يسكن قرى وصاب اليوم، وبعد 14 عاماً على ذلك التعداد، فإن ما لا يقل عن مليون وصابي ينتشرون في جغرافيا اليمن والخليج اليوم، وإذا طفت مناطق الحديدة، بيت الفقيه، زبيد، والجراحي ستدرك أن أبناء وصاب هناك يتواجدون بكثافة مرتفعة كجزء من سكانها.

عندما أراد الراحل عبدالله البردوني اختزال الشخصية اليمنية عبر التاريخ في قصيدته (جوَاب العصور) الذي ضمها ديوان بنفس العنوان، فقد اختار شخصية (زيد الوصابي) للقيام بهذه المهمة، لأن وصاب مشهورة بالاعتدال الديني والمناطقي، حسب الناقد نبيل محمد طاهر، وتمثل خلاصة اليمني الفلاح المرتبط بالأرض قبل أي عصبية أخرى ككل اليمنيين في عهود الازدهار الحضاري، ومطلع القصيدة:

ما الذي تبتاع يا زيد الوصابي

هل هنا سوق سوى هذا المرابي؟

وختامها:
طفت عصراً بعد عصر وأنا

أنت، ما زلت أنا ذاك الوصابي