الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (3)

المخا تهامة - Thursday 30 May 2019 الساعة 03:05 pm
المخا، نيوزيمن، كتب/ أ.د عبدالودود مقشر

لاحظت خلو كتب التاريخ والجغرافية والرحالة في عهد الدولة الرسولية، وما قبلها من ذكر الصليف كمسمى سائد، بل لم يرد في أشهر كتاب جغرافي يمني في النصف الأول من القرن العاشر الهجري / النصف الأول من السادس عشر الميلادي وأقصد كتاب (النسبة إلى المواضع والبلدان) لجمال الدين عبدالله الطيب بن عبدالله بن أحمد بامخرمة تـ(947هـ).

لمتابعة الحلقات السابقة:

الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (1)

الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (2)

وتوصلت بعد دراسة أغلب كتب التاريخ والجغرافية اليمنية إلى أن أول ذكر ورد للصليف بدون تسميتها صراحة كان في مطلع القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي في عهد الدولة الطاهرية 858 – 923هـ / 1454 – 1517م في سياق رحلة الرحالة الإيطالي الشهير لودفيكو دي فارتيما ((Ludovico di Varthema وتسمى في رحلته بالحاج يونس المصري، والذي وصل إلى كمران في سنة 908هـ / 1503م ويصف الرحالة فارتيما الصليف بقوله: "ورأيت فيها أفضل أنواع الملح على الإطلاق، أنا شاهدت صناعته –استخراجه- على الجزء المقابل لجزيرة كمران في البر الرئيسي والذي يبعد عن الجزيرة ثمانية أميال بحرية"، لكن بدأ ذكر اسم الصليف يرد صراحة تباعاً في عهد الحكم العثماني الأول في فترتيه التاليتين وهما:
- حكم المماليك الجراكسة لليمن ( 923 – 944هـ / 1517 – 1538م).
- الحكم العثماني الأول (944 – 1045هـ / 1538 – 1635م).

يظل السؤال مطروحاً حول سببية ورود ذيوع واشتهار الصليف في العهد العثماني وخلوه عن بقية العهود التي حكمت اليمن، وأرى شخصياً أن بروز منطقة الصليف في العهد العثماني يرجع إلى الأسباب التالية:

أهمية الموقع الذي تتموضع فيه شبه جزيرة الصليف والذي يشكل عمقاً في البحر الأحمر كلسان بحري وجذر بري في ثنايا الأرض اليمنية.

التدمير شبه الكامل للموانئ اليمنية على يد القوى البرتغالية التي دمرت أغلب هذه الموانئ التي مرت بها ونزوح السكان منها.

المزايا التي ميزت الصليف –التي ذكرت سابقاً– وأهمها عمق ميناء الصليف الذي استقبل سفن الأسطول العثماني الضخمة في حين عجزت بقية الموانئ اليمنية القريبة من الصليف عن ذلك ومنها الحديدة.

ما تمتلكه الصليف من مناجم الملح وهو السبب الرئيس لاستخدام العثمانيين للصليف.

وأرى أن السبب الأخير وهو مناجم ملح الصليف هو الذي أعطى الصليف الأهمية لدى السلطات العثمانية، ومرد الأهمية هو استخدام الملح الذي يدخل كمادة رئيسية في صناعة البارود مع انتشار الأسلحة النارية الحديثة، وهو ما جعل اليمن مصدراً للبارود، فقد وردت في الوثائق العثمانية من السلطان العثماني إلى واليه على اليمن "حكم إلى بكلربكي اليمن، لما كنا قد سمعنا أن البارود يصنع في اليمن وأنه يوجد منه بقنطار اليمن 50 قنطار بارود فقد أمرنا تسليم البارود المذكور إلى أمير الحلة أحمد بك على أن يرسل إلى المخا ومنها إلى السويس ومصر وأن يصنع في كل سنة ألف قنطار. [18 جمادى الأولى 973هـ / 10 ديسمبر 1565م]"، وهو دليل واضح على أن الصليف كانت مصدراً مهماً لصناعة البارود وتصديره في الامبراطورية العثمانية، وهو ما يتجلى في جعل هذا الميناء موطأ قدم لأغلب الولاة العثمانيين ومنطلقاً لهم إلى أرجاء اليمن بعد التزود بالذخائر اللازمة من البارود.

لا شك أن الصليف ظهرت بشكل قوي وسريع كوريثة طبيعية لميناء الحردة، فأول ذكر ورد للصليف صراحة كان في جمادى الأولى سنة 932هـ / فبراير 1526م في كتب التاريخ اليمني وهو في كتاب (تاريخ الشحر) لمحمد بن عمر الطيب بافقيه، حيث قال: "وفيها – 932 هـ - يوم الأحد من جمادى الأولى [فبراير 1526م] وصل الأورام (أي العثمانيين) إلى زبيد صحبة مصطفى شلبي بن حسين بيك بن محمد مراد الطغرائي من بندر الصليف، وعند وصوله باب سهام وقع مطر عظيم جداً"، وقد ذكر المؤرخ العربي النهروالي في (البرق اليماني) أنه في نهاية هذا العام ذي الحجة 932هـ - سبتمبر 1526م –قدم الامير سلمان الرومي مرسلاً من قبل الدولة العثمانية بحملة عسكرية لاسترجاع اليمن من مصطفى بك ووقعت المعركة بينهما في الصليف وكانت النتيجة هروب مصطفى بك وهزيمته، ونفس الرواية يوردها المؤرخ ابن داعر في (الفتوحات المرادية)، ثم ذكر بافقيه في تاريخه ضمن حولياته: "وفي اليوم الثاني من شهر شوال – 945هـ / 21 يناير 1539م– أخذ الباشة الطواشي زبيد من غير قتال ولا سبب بل أدوا له الطاعة الأتراك الذي فيها، وأميرهم الناخوذا أحمد... قلت: قال باسنجله وهو الاتابكي وقاتل معه جماعة، وكان مصطفى بيرم الذي دخل الهند جعله أميراً في كمران وجعل اسكندر موز أميراً بزبيد، فلما توفي الأمير اسكندر موز جعل الناخوذا أحمد محله والأمير الذي جعله بزبيد يسمى مصطفى وسمّاه باشة اليمن وهو أول من سمي باشة اليمن وخلف عنده ألفين من العسكر وبهرام بقي في عدن على حاله وسار بأولاد اسكندر موز معه فلما وصل إلى الصليف قرية جزيرة كمران...".

ويستوقفني نص تاريخي أورده مؤرخ هندي وهو الشريف عبدالحي بن فخر الدين الذي ترجم لإحدى الشخصيات السابقة وهو الأمير مصطفى الرومي فقال: "الأمير الكبير: مصطفى بن بهرام الرومي المشهور برومي خان، ولد ونشأ بالروم ولازم خاله الأمير سلمان من صباه، وقدم معه إلى بلاد اليمن وسكن بقلعة كمران، وكان خاله يشتغل بنجر الأغربة في ساحل الصليف وهي مقابلة لكمران، بينهما بحر يصله راكب في أقل من الساعة الفلكية، ومعهم خواجه صقر وقرأ حسن ومصطفى وإسماعيل وخلق كثير من الأتراك، فاتفق أن خير الدين الأمير أيضاً قدم اليمن وأحب لنفسه الاستقلال وقتل سلمان غيلة، فقام مصطفى بن أخته لأخذ ثأره فقتل خير الدين سنة خمس وثلاثين وتسعمائة واستقل بقلعة كمران"، فالنص السابق يؤكد ما يلي:

أن الصليف كانت موجودة بالفعل قبل سنة 935هـ / 1528م بزمن طويل، وأنها قاعدة اساسية للعثمانيين وللتموين والتزويد العسكري.

كان بالصليف ورش لصناعة وصيانة السفن الحربية الضخمة ومنها الاغربة، الغراب جمع أغربة وغربان نوع من السفن الحربية السطحة تسير بالمجاديف والتي استعملها المسلمون وخاصة في العصور الوسطى في حروبهم وقد نقلها العثمانيون إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي واستخدموها في أساطيلهم البحرية وحروبهم إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي.

وجد بالصليف مدرسة تعليمية تدرس، وتعلم باللغة العثمانية خلق كثير من الأتراك.

كانت البداية القوية للصليف هي التي جعلتها تستمر في وجودها ولها الشهرة في ذلك.

ومن خلال تتابع الأحداث خلال القرنين العاشر والحادي عشر الهجري / السادس والسابع عشر الميلادي يتأكد دور الصليف كمحطة أولى وبوابة للولاة وقادة الدولة العثمانية في اليمن للولوج إلى اليمن والخروج منها عقب العزل والإقالة، وهذه أمثلة لبعض الولاة الذين قدموا لحكم ولاية اليمن وخرجوا منها:

عزل أزدمر باشا وتولية مصطفى باشا النشّار: "وفيها - 961هـ/ 1555م - عزل الباشة أزدمر التركماني من اليمن وولي الباشة النشّار وكان وصول النشّار من الأبواب.... وكان عزله آخر السنة المذكورة عشرين ذي الحجة وعزم إلى الأبواب السلطانية من الصّليف".

تولية مراد باشا: "وصل مراد باشا إلى بندر الصليف في أواخر محرم سنة أربع وسبعين وتسعمائة / أغسطس 1566م".

عزل بهرام باشا وتولية مصطفى باشا: "وفي أواخر شهر ربيع الأول منها [ 983هـ/ أوائل شهر يوليو 1575م]، وصلت الكتب من مدينة زبيد، إلى حضرة مولانا الباشا – بهرام باشا – تتضمن وصول مصطفى باشا إلى بندر الصليف".

تولية حسن باشا وعزل مراد باشا: "وفي جمادى الأولى 988هـ / يونيو 1580م وفي ذلك عشي حسن باشا بولاية اليمن.. وبلغ مراد باشا عزله بحسن باشا وقرب من الديار اليمنية تحرك مراد باشا لما وصل حسن باشا الصليف...".

تولية جعفر باشا: "فوصل إلى بندر الصليف، من حدود اليمن، في تاسع شهر ربيع الأخر، سنة ست عشرة بعد الألف، / الثاني من أغسطس 1016م".

عزل جعفر باشا وتولية إبراهيم باشا: "إن ولاية اليمن قد توجهت من الأبواب العلية،... إلى الوزير إبراهيم باشا، فخرج الوزير جعفر باشا قاصداً إلى الأبواب العلية، في حادي عشر شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وعشرين وألف/ الثامن والعشرين من يونيو 1613م، ووصل إبراهيم باشا إلى بندر الصليف، في سلخ صفر وخرج إلى البر في غرة ربيع الأول، سنة اثنتين وعشرين وألف / العشرين من ابريل 1613م".

تولية فضل الله باشا وعزل محمد باشا: "ولي اليمن بعد محمد باشا فكان وصوله إلى بندر الصليف في ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وألف/ الرابع عشر من يناير 1622م".

نتيجة للأهمية التي حظيت بها ميناء الصليف فقد عدّت الدولة العثمانية الصليف من ضمن ألويتها التي شكلتها في سنة 1000 و1007 و 1008هـ واحتلت رقم 24 في عدد الالوية التي بلغت (77)..

وإلى جانب المكانة السياسية والاقتصادية والعسكرية فقد تميزت الصليف من الناحية العلمية ببروز بيوت علمية وروحية احتلت مكانة رفيعة فبرز منهم في الحياة العلمية العلامة مكين صاحب بندر الصليف بن المقبول بن الهادي بن أبي القاسم الأهدل وولده العلامة محمد القبع والعلامة محمد بن المكين القبع بن المقبول الأهدل توفي 1055هـ بجدة وكان صاحب علم وصلاح وثروة متمثلة في الجلاب –السفن- التي تتعاطى التجارة بين جدة والصليف، ومنهم العلامة أحمد ابن السيد الولي عمر بن أحمد بن زين العابدين الأهدل المتوفى سنة 1006هـ، قال الحموي عن الولي عمر بن أحمد الاهدل"، والظاهر أن بني القبع –بفتح القاف والباء الذين ببندر الصليف من تهامة اليمن منسوبون إليه بضم القاف وسكون الباء إلى فتحهما للتخفيف"، وذكر المؤرخون غير هؤلاء من بيوت العلم والمكانة الروحية في الصليف.

وبسبب الثورات اليمنية المتعددة ضد العثمانيين اضطر العثمانيون في الأخير للانسحاب من اليمن نهائياً في 1045هـ/ 1635م، وحكم الائمة الزيدية تهامة لأول مرة في التاريخ بعد خروج العثمانيين منها، فقد "غزت جيوشهم تهامة، وفيها بقية الأروام العثمانيين - وأخذت منهم زبيد والمخا وحيس وبيت الفقيه الزيدية وبيت الفقيه ابن العجيل واللحية والحديدة وموشج والصليف وموزع".

توارى ذكر الصليف ما بين عهدي الحكم العثماني الأول والثاني، واستغلت القوى المحلية مناجم الملح لصالحها، وهو ما ذكره مؤرخ من أبناء المنطقة فقال الأهدل في (الدرة المنيرة): "لما استولى بعض الظلمة على الملح المنسوبة إليه وغير عاداتها".

وقد وصل العلامة رفيع الدين بن فريد الدين المراد آبادي إلى كمران في 28 شعبان 1201هـ/ 13 يوليو 1787م، فقال عنها: "أما الحبوب وضروريات الحياة الأخرى فيأتون بها بالسفن من اليمن، أو يشترونها من أصحاب السفن، مقابل تزويد السفن بالملح الكمراني، وتقع مناجم هذا الملح (الملاحات) بالقرب من ساحل البحر في المنطقة المقابلة لجزيرة كمران".