فهمي محمد
الإرث السياسي النبوى وإشكالية المفهوم الثقافي لأحزاب الإسلام السياسي
مع نزول رسالة الإسلام في مكة المكرمة وهجرة الجماعة الإسلامية الأولى إلى يثرب (المدينة المنورة) بعد اعتناق المكون القبلي للأوس والخزرج دين الإسلام، على إثر ذلك شهدت المدينة المنورة أول جماعة إسلامية تميزت بقدر من التجانس الاجتماعي والاقتصادي، لا سيما بعد إقدام الرسول الكريم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لا سيما وقد تأسست هذه المؤاخاة على قاعدة اقتصادية تمثلت فى إشراك المهاجرين في أموال الأنصار، وكأن لسان حال الرسول الكريم تقول إن الفوارق الطبقية في الثروة داخل المجتمع الواحد سوف تعيق عملية الاندماج الاجتماعي داخل الجماعة الإسلامية.
مع هذا التحول «الذي مثل الدين ديناميكيته الإيجابية» بدأت هذه الجماعة الإسلامية تعي ذاتها الجمعية كمجتمع جديد بدأ يتشكل ويعي دوره المستقبلي كحامل رسالة سماوية، إلا أن هذه الجماعة الإسلامية ظلت في حياة الرسول الكريم وحتى مماته، صلى الله عليه وسلم، خاضعة لأحكام الدين الإسلامي بكونه سلطة تشريعية ليس إلا، أي لم يشعر المسلمون في حياة الرسول أن مجتمعهم الجديد أصبح يخضع «سياسياً» لسلطة سياسية، أو لسلطة دولة حاكمة كما كان المسيحيون يومها يخضعون لسلطة سياسية امبراطورية، فالرسول الكريم بناء على تعاليم النص القرآني قدم نفسه للمسلمين في مكة والمدينة وحتى للمسلمين خارج هذه الجغرافية بعد اتساع رقعة الإسلام في حياته، بكونه بشرا مثلهم يوحى إليه، ولم يقدم نفسه رئيساً لدولة أو قائدا لسلطة سياسية حاكمة، بدليل أنه كان يبقي على الشكل السياسي وعلى نموذج السلطة التي كانت تحكم الأقطار التي أسلم أهلها، أي لم يقدم نظاما سياسيا بديلا على أنقاض ما كان قائما في حياتهم السياسية قبل أن يصبحوا مسلمين، فقط كان يكتفي بإرسال بعض الصحابة يعلمون الناس شريعة الإسلام بعد إسلامهم ويدعونهم إلى توحيد الخالق في بعض الأمصار التي لم تُسلم بعد.
لا يعنى هذا أن الرسول الكريم لم يمارس السياسة ولم يكترث بفعلها في حياته، أو أن التحولات الدينية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول الكريم، لم تكن تحتاج بالضرورة إلى ممارسة شيء من السياسة، بل يعني أن الرسول الكريم مارس السياسة في صياغة دستور المدينة وفي اتفاقية الأحلاف وفي صلح الحديبية، إلا أنه «وهذا الأهم في الموضوع» أن ممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم للفعل السياسي أو تعاطيه مع المسألة السياسية تميز بثلاثة أشياء:
الميزة الأولى: تعني أن الرسول مارس السياسة بناءً على قاعدة تقول إن مصدر المشروعية بالنسبة لممارسة الفعل السياسي تجد مبررها في مصلحة المجتمع وحاجته الظرفية وليس في النص الديني الإسلامي أو في تعاليمه، بدليل أن النص الديني يصف حال الرسول الكريم مع المسلمين بالقول {وأمرهم شورى بينهم} اي أمر الناس وليس أمر الله، والأمر في مفهوم الآية هو الفعل السياسي الدنيوي، وهو خاضع لتقدير الناس ومصالحهم الدنيوية عن طريق التشاور والحوار، ومصدره حاجة الاجتماع البشري بغض النظر عن المعتقد الديني، أما الدين عقيدة وأحكاما وشريعة مصدره الخالق ولا يخضع للتشاور بين الناس، بل يقتضي بالضرورة التسليم لأحكامه، لذلك سمي دين الإسلام.
الميزة الثانية: تعني أن إشكالية المفهوم الثقافي لدى الرعيل الأول من الصحابة بخصوص مصدرية السياسة حدث مع سياسة الرسول في صلح الحديبية لا سيما فيما يتعلق بقبوله شرط قريش الذي قضى بأن لا تتضمن وثيقة الصلح بسم الله الرحمن الرحيم ولا اسم محمد رسول الله، وأكثر من ذلك قضى أحد بنود صلح الحديبية بأن يعمل محمد على إعادة من أتاه مسلما من قريش وليس العكس، الأمر الذي يعني أن عمر بن الخطاب ومن إليه خضعوا فعل الرسول وقبول هذا الصلح لمصدر الدين لذلك لم يستوعبوا ما حدث بدليل أن عمر لم يخف غضبه حين قال في وجه رسول الله أولسنا بمسلمين أولست رسول الله فكيف نعطي الدنية في ديننا! أما الرسول كان يدرك تماماً أنه في صلح الحديبية يمارس فعلا سياسيا لا يشكل النص الديني مصدراً له.
الميزة الثالثة: أن الرسول في حياته مارس السياسة كفعل سياسي تكتيكي وأخلاقي ولم يمارسها كفكرة ثقافية وعلم يتعلق بمفهوم إدارة السلطة والدولة، فلم يعمل الرسول على تأسيس سلطة سياسية حاكمة في المدينة، حتى دستور المدينة الذي صاغه الرسول إن صح وصفه بالدستور لم ينتج عنه شكل سياسي معين من أشكال السلطة السياسية في حياة الرسول، بل ترك الرسول سؤال السلطة والدولة لحاجة المسلمين بعد موته من باب أنتم أدرى بشؤون دنياكم، ما يعني في النتيجة أن إشكالية المفهوم الثقافي بخصوص مصدرية السياسة الذي تشكل لدى الرعيل الأول في حياة الرسول الكريم، انعكس بعد موته على إشكالية مفهومهم الثقافي بخصوص مصدرية السلطة والدولة وهو ما يشكل اليوم الثقافة السياسية لأحزاب الإسلام السياسي بحيث لا تستطيع هذه الأخيرة إدراك النقطة الفاصلة بين ما هو سياسي دنيوي وما هو ديني سماوي. بمعنى آخر هل تجد السلطة والدولة مصدرهما في نص الدين أم في صيرورة الاجتماع البشري؟ وهل علم الدولة والسلطة هو علم الشريعية الإسلامية بالضرورة أو علم السياسة؟ وهل وجدت الدولة لحماية بيضة الإسلام أم بيضة الجماعة؟ وفي كل الأحوال هل تعبر الدولة عن تطلعات مجتمع متدين أم تعبر عن تطلعات شعب بالمفهوم السياسي؟ لا سيما وأن دعوة الرسول الكريم لاعتناق الإسلام قامت على أساس قوله خلوا بيني وبين الناس.
على أي من هذه الأسئلة تأسس إرثنا السياسي والذي يشكل اليوم الثقافة السياسية لأحزاب الإسلام السياسي؟