فهمي محمد
جدلية التوازن السياسي في عهد الراشدين الخلافة الإسلامية أم القبيلة السياسية؟
مع ترسيخ استحقاق قريش في عهد الخلفاء الراشدين سلطة الخلافة الإسلامية بدون أدنى منافسة سياسية من قبل الآخرين، إلا أن خلافة أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب على وجه الخصوص، تميزت بقدرة الرجلين الراشدين خلال فترة حكمهما على كبح جموح قريش (القبيلة) من أن تشكل عصبية قبلية سياسية «مهيمنة» داخل جهاز سلطة الخلافة الإسلامية أو أن تتحول إلى نفوذ سياسي/ قبلي/ سلطوي/ يمارس الاستعلائية السياسية في وجه المسلمين، بمعنى آخر قوة شخصية الخليفتين في إدارة سلطة الخلافة الإسلامية وتطبيقهما مبدأ العدل ومبادئ العدالة ناهيك عن حزمهما في الثواب والعقاب على الجميع دون استثناء، كل ذلك لم ينعكس سياسياً وبشكل إيجابي على عدم قدرة قريش القبيلة في ممارسة المحسوبية السياسية أو أن تتحول الى مفهوم القبيلة السياسية، بل انعكس أيضاً بشكل إيجابي على مشروعية سلطة الخلافة الإسلامية التي بدت راشدة في نظر عامة المسلمين، ما يعني أن أبو بكر وعمر استطاعا بفكرهما السياسي والديني الملتزم بروح الشريعة، أن يخلقا توازنا بين العمل بالقاعدة السياسية التي تأسست في سقيفة بني ساعدة، اقصد السلطة في قريش دون غيرها من المسلمين، وبين منع قريش القبيلة من أن تتحول في عهدهما إلى قبيلة سياسية مهيمنة ومتعالية فوق سلطة الخلافة الإسلامية التي بدت معنية في عهدهما على وجه الخصوص بحماية بيضة الاسلام، حتى داخل قريش وجد شيء من الحرص على إحداث التوازن في مآلات الاستحقاق وانعكاساته، وهذا ما يفهم من قول عمر بن الخطاب لابن عباس بن عبدالمطلب حين أصبح عمر خليفة للمسلمين، يومها سأل ابن عباس الخليفة عمر بالقول لماذا تُحيّدون الخلافة عنا؟ يقصد عن بني هاشم وعلى وجه التحديد عن علي بن أبي طالب، فرد عمر بعد أن برر ملابسات اختيار ابوبكر وعمر خُلفاء عليهم، بالقول لقد أبت قريش أن تجمع فيكم «أي بني هاشم» الخلافة والنبوة فتنطحون في السماء، أي تتفاخرون على الناس وهذا ما نجد في كلام عبدالله بن الزبير الذي كان يقول اللهم صل على محمد فقط وعندما سأل لماذا لا تقول وعلى آل محمد قال عندما أقول اللهم صل على محمد وآل محمد أرى بني هاشم أطول اعناقاً، بمعنى يلاحظ عليهم التعالي والفخر، وكأن لسان حال هؤلاء يقول بمنطق خلق التوازن السياسي والاجتماعي في مجتمع قبلي كيف سيكون حال بني هاشم وتصرفاتهم معنا إذا جمع فيهم شرف النبوة سلطة الخلافة الإسلامية؟
ربما كان في كلام عمر بن الخطاب إدراكا مبكرا وسديدا في نفس الوقت، لمخاطر الهاشمية السياسية في المستقبل، مع أن الإمام علي رضي الله عنه كشخص من بين جموع الصحابة يستحق ألف مرة كرسي الخلافة الإسلامية وهو أهل لها بدون شك، ولكن استحقاقه لها استحقاق ذاتي فيه أي محصور بشخصه ومواصفاته التي لا توجد في أحد بعده، وليس استحقاقا سياسيا يفرضه مفهوم النص الديني أو تأويله الذي لم يكسر عنق النص الديني فقط، بل عمل على تحويل العترة النبوية أو آل البيت بعد عهد الراشدين من رمزية دينية ترتبط وجدانياً لدينا من حب الرسول الكريم لها، إلى سلالة سياسية حولت المسلمين حتى اليوم إلى (وقود معارك) في حروبها المستمره تاريخياً على السلطة والثروة، كما هو الحال في اليمن منذ 284 هجرية وحتى اليوم، أي أن اليمنيين عاشوا أحد عشر قرنا ونصف القرن يقتلون بعضهم البعض ليس من أجل أن يكون الإمام علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، خليفة عليهم «فهيهات أن نجد مثل علي أو على شاكلته تحت الشمس» بل من أجل أن تحكمهم رغم أنوفهم سلطة السلالة السياسية أو الهاشمية السياسية وتلك أحد الإشكاليات في مآلات الإرث السياسي الإسلامي الذي ما زال يتحكم في ثقافتنا السياسية حتى اليوم!
نعود إلى ما يفهم سياسياً من قول عمر لابن عباس بمنطق التوازن السياسي (لقد أبت قريش أن تجمع فيكم الخلافة والنبوة فتنطحون في السماء) وهو بلا شك يعني أن قريش عملياً أصبحت منذ سقيفة بني ساعدة هي المكون القبلي المعني في اتخاذ القرار السياسي وتحديد من يكون خلفية المسلمين من داخل قريش وليس من خارجها وهذا من جهة أولى يُعد تعطيلا ومصادرة لمعنى الشورى كما قلنا بحيث انعكست نتائج هذه المصادرة بشكل سلبي على مستقبل السياسة التي تعثر حضورها الفاعل كفكرة ثقافية مستقلة وفعل سياسي مفتوح أمام كل أفراد المجتمع المسلم، بسبب عدم تحويل مبدأ الشورى إلى آلية عملية تنفيذية ونظام سياسي في عهد الراشدين، ومن جهة ثانية فإن العمل بقاعدة السلطة في قريش في عهد أبو بكر وعمر لم تنعكس بشكل سلبي على مصالح الناس ولم تخلق احتقانا سياسيا مُلفتا داخل المجال الاجتماعي كما حدث لاحقاً، لأن تجربتهم السياسية التي تميزت برباطة الجأش في إدارة مقاليد سلطة الخلافة والعدل والأخذ بمبدأ الحساب والعقاب حتى مع ذويهم، منعت رموز قريش من الاستئثار بالثروة والمال العام، حتى مسألة الإثراء بسبب مشروع بدت في عهدهما خاضعة للمراجعة النقدية فيما يتعلق بمآلاتها المستقبلية، فقد قال عمر للقرشيين الذين تمسكوا بظاهر النص واصروا على صوابية تقسيم الغنائم بعد الانتصار في معركة القادسية على الفرس، وتدخل هو لمنع تقسيم أرض سواد العراق وأجاز تقسيم المنقولات (مالي وقريش والله اني لماسك بحلاقيمهم خوفاً من أن تتهافتون في النار) ما يعني في النتيجة أن قريش القبيلة مع هكذا حال لم تستطع أن تتحول في عهد أبو بكر وعمر إلى قبيلة سياسية مهيمنة فوق سلطة الخلافة الإسلامية. فماذا عن خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب؟