نستطيع القول إن غياب الدولة الوطنية الديمقراطية في واقع حال اليمنيين، قبل تحقيق الوحدة اليمنية وحتى بعد تحقيقها مثلا في كل الأحوال جذر المشكلة السياسية والتاريخية اليمنية.
كما أن هذا الغياب الجذري في سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية هو الذي أعاق عملية تحول بلاد اليمن إلى وطن للجميع، مع أن اليمنيين صنعوا ثورات وأقاموا وحدة بين شمال اليمن وجنوبه.
وهذا ما يجعلنا نعود مجدداً للحديث الجذري عن إشكالية نتيجتين سلبيتين ترتبتا على إثر معادلة الصراع بين الملكية والجمهورية التي تحولت في واقع الحال إلى صراع بين بيت حميد الدين وخصومهم السياسيين بغض النظر عن مسألة الانتصار لمفهوم الملكية أو الجمهورية في شمال اليمن:
النتيجة الأولى:
كان من المفترض أن تجد ثورة الـ26 من سبتمبر نفسها أمام معركة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية في شمال اليمن وهي معركة الانتصار لأهدافها الستة المعلنة في البيان الأول للثورة.
بمعنى آخر تحقيق مشروع الثورة على المستوى السياسي والاجتماعي بعد أن نجح فعلها الثوري في إسقاط سلطة الإمامة السلالية والاستيلاء على مقاليد السلطة الحاكمة في العاصمة صنعاء.
لكن الثورة بدلاً عن ذلك وجدت نفسها أمام معركة الدفاع عن الجمهورية مع عودة الإمام البدر إلى مسرح المواجهة العسكرية بدعم من المملكة العربية السعودية.
ومع أن معركة الدفاع عن الجمهورية التي استمرت ثماني سنوات متواصلة، كانت معركة عسكرية مدعومة خارجياً بالدرجة الأولى ومعركة سياسية بدرجة ثانية، إلا أن متطلبات المعركة والمواجهات العسكرية عملت على تغيير الأولويات في جدول أعمال سلطة الثورة، ما يعني في النتيجة الأولى «سلبياً» أن معركة الدفاع عن النظام الجمهوري التي استغرقت عقداً من عمر الجمهورية، في ظل صراعات داخلية وخارجية عملت على ترحيل معركة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية داخل المجال السياسي للجمهورية العربية اليمنية.
وهذا ما جعل أجيال الثورة المتعاقبة في شمال اليمن تعيش حاضرها في ظل الجمهورية ولكن بدون سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية.
وهذا "البدون" في وجود سلطة الدولة الذي كان يفترض أن تحوله الثورة إلى كيان سياسي موجود وحاكم هو الذي ظل حتى اليوم يعبر عن إشكالية عدم وجوده مع حاضر الأجيال المتعاقبة في سؤال محتوى الجمهورية الذي زادته الأحداث والاخفاقات وحتى اغتيال الفرص والثورات تشعباً كما هو واقع حالنا اليوم.. بحيث أصبح مستقبل النظام الجمهوري وحتى وحدة الجمهورية اليمنية وسيادتها الوطنية على المحك أو قل على مفترق الطُرق.
النتيجة الثانية:
إذا كانت متطلبات معركة الدفاع عن الجمهورية قد جعلت معسكر الثورة مفتوحا على مصراعيه أمام الاحتشاد اللا ثوري في شمال اليمن (مشايخ حاشد وبكيل ورموز حركة 48 على سبيل المثال وليس الحصر)، وهو ما أصبح يومها في حسابات الكثيرين من المحتشدين معركة بين عودة بيت حميد الدين وخصومهم السياسيين، أكثر من كونها معركة بين الجمهوريين والملكيين، ناهيك أن سني هذه المواجهات حدثت في ظل عدم وجود تنظيم سياسي ثوري يقود سلطة الثورة، ومعركة المواجهة، فإن ذلك قد منح المكونات اللا ثورية فرصة الزحف السياسي على سلطة الثورة مع انشغال قادة الثورة الحقيقيين في خوض معركة الدفاع عن الجمهورية، ما يعني في النتيجة الثانية «سلبياً» أن معركة الدفاع عن الجمهورية التي كانت في واقع الحال بين بيت حميد الدين وخصومهم السياسيين قد منحت القبيلة السياسية فرصة الاستيلاء على سلطة الجمهورية.
والغريب في الأمر أن سلطة الثورة بعد شهور من عمر ثورة سبتمبر ساهمت بقصد أو بدون قصد في هذا الاستيلاء اللاثوري حين أصدرت قرارات جمهورية شرعنت فيها لوجود سلطة القبيلة السياسية في شمال اليمن، على حساب سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية.
إذاً نستطيع القول بما يعني الاستنتاج أن سلطة الإمامة السلالية المذهبية شكلت بحد ذاتها سلطة ممانعة لوجود الدولة الوطنية في ظل المملكة المتوكلية.
كما أن القبيلة السياسية شكلت هي الأخرى سلطة ممانعة لوجود الدولة الوطنية الديمقراطية في ظل الجمهورية.
كما أن ثورة سبتمبر الخالدة وإن كانت قد انتصرت تاريخياً على الملكية وعلى سلطة الإمامة إلا أنها لم تنتصر سياسياً لأهدافها السته (مشروع الثورة)، وهو ما جعل من فكرة الدولة ومن مفهومها الوطني والديمقراطي قضية نضالية في زمن الجمهورية كما كانت قضية نضالية في زمن الملكية الإمامية، ما يعني أننا لم نتجاوز حتى اليوم جذر المشكلة اليمنية.