جميل أن لا يكون الشعر حرفة، وأن لا يكون مصدر رزق، وأن يبقى كما أراده الله للطيور غناءً، وللزهور رائحة وألواناً، وللزمان فصولاً، وللطبيعة جبالاً وسهولاً وودياناً. والأجمل من ذلك أن يكون الشاعر حراً في حياته، وفي اختيار الشكل الذي يكتب به، وفي اختيار الكلمات التي يأنس إليها،
والصور التي تعكس انطباعه هو لا ما رآه أو تخيله الآخرون بالنيابة عنه؛ وحتى لا يكون الشعر صدى لحاجة الشاعر إلى البقاء ويكون الشاعر أسيراً لذاكرة تَراكمَ عليها غبار القرون.
مطلوب بإلحاح أن يخوض الشعراء أنفسهم حرباً نقدية ضد توظيف الشعر لما ليس شعراً، ولما يبتعد بالشاعر عن صياغة رؤيته الخالصة القادرة على اجتراح المعنى الجديد والصورة الجديدة في حالة من اللاوعي التجريبي الذي يحرر ذاكرته مما علق بها من قديم الإبداع وحديثه، ويرقى بها إلى مستوى من المغامرة المحسوبة فنياً والهادفة إلى الإبحار نحو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
ومن المحزن أن الشاعر العربي المعاصر ما يزال -نتيجة الظروف غير السوية التي يمر بها وطنه الكبير- مضطراً إلى التمركز داخل حاوية المعنى، والخضوع لقابلية التأويل الواحد حتى لا يغترب عن السرب ويبتلعه الجزر إلى الأعماق بدلاً من أن يأخذ به المد إلى بر الأمان.
الشعر تجربة لا نهائية، وسؤال دائم الإنجاز والتجدد، تجربة مفتوحة لا تقبل التكرار والمحاكاة والانغلاق. والشعر بطبيعته ينفر من التعقيد، ويهوى الانطلاق في فضاءات لا نهائية. وإذا كان العلماء –منذ وقت طويل وإلى وقت قريب- يتحدثون عن بصمة الإبهام بوصفها العلامة التي تميز الفرد والتي لا يمكن أن تتكرر، فإنهم، بعد تقدّم العلم خطوات أكبر، صاروا يتحدثون عن بصمة العين بوصفها الأكثر تميزاً وتمثلاً لخصوصية كل إنسان عن الآخرين. أما القصيدة الجديدة، قصيدة اليوم والغد، فهي وحدها التي تشبه بصمة العين، والتي تسعى في خصوصيتها إلى البحث عن النص الذي يغري روح الشاعر بالبحث عنه، ويغري روح القارئ بمتابعته وهو مغمور بالفرحة والدهشة والأسئلة.
إن عالماً خالياً من الشعر هو عالم بائس شديد الجفاف. ومهما قيل عن مستوى منه عميق التعبير يخاطب النخبة الثقافية فقط، فإن أشكالاً أخرى منه ما تزال تخاطب الوجدان البشري في حدود مستوياته الدنيا. ولم يذهب أدونيس بعيداً حين قال: «على أن الشعر هو -في الثقافة- الأفق الأكثر رحابة، والهواء الأكثر نقاوة.. وعلى أنه التعبير الأجمل والأكمل عن الهوية..».
وتبقى الإشارة الأهم، وهي أن كل كتابة لا تستمد وجودها من ذلك الكنـز النقي الهاجع في أعماق الروح، ولا تتفجر من حنين دائم إلى غدٍ إنساني حرٍّ جميل، لا تستحق ثمن الحبر الذي أهدرته ولا الورق الذي مسخت شفافيته. ومن هذه المنطلقات جميعاً، سوف تحرص المجلة -بهيئتها ومحرريها وكتاّبها- على أن تكون أبيات أبي تمام في المحبة والإخاء الإنساني والأدبي شعاراً لا تحيد عنه أو تخرج عن دلالاته:
إن يُكدِ مطّرفُ الإخاءِ فإننا
نغدو ونسري في إخاءٍ تالدِ
أو يختلفْ ماءُ الوصال فماؤنا
عَذْبٌ تحدّرَ من غَمامٍ واحدِ
أو يفترقْ نسبٌ يؤلّفْ بيننا
أدبٌ أقمناهُ مـقام الوالدِ
*من صفحة الكاتب على فيسبوك