أنور العنسي

أنور العنسي

تابعنى على

في وداع إذاعة بي بي سي.. المدرسة والدروس الأولى

Friday 27 January 2023 الساعة 03:46 pm

عند الساعة  13:00 بتوقيت جرينيتش من هذا اليوم السابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2023، كان البث الخطي الأخير لأثير بي بي سي، الإذاعة العالمية الناطقة بالعربية، الأعرق والأوسع انتشاراً في العالم العربي والشرق الأوسط لما يزيد على 80 عاماً.

 إنها لحظة يمتزج فيها الحزن بالعرفان الكبير لما قدمته هذه الإذاعة من خدمة لملايين المستمعين كمصدر موثوق للخبر الدقيق والاهتمامات الجادة بشؤون المنطقة العربية كافة.

لم أكن في سنوات الصبا والشباب لأحلم بأن أكون أكثر من مستمعٍ بوعيٍ وانتظامٍ لإذاعة بي بي سي، وقادرٍ على المحاججة مستنداً ومعتمداً على ما سمعته منها.

كان للمذياع أو جهاز (الترانزستور) في بيتنا القديم بيت، وله في صدارة منزلنا في مدينة ذمار جنوب صنعاء منزلة، كأنه أحد سكان الدار، كواحدٍ من أهم أفراد عائلتنا، حيث لم يكن والدي يوقظنا للصلاة واللحاق بمدارسنا وأيامنا إلاّ بعد أن يكون هو قد افتتح صباحه بإدارة كعكة الراديو على مؤشر إذاعة بي بي سي التي كانت بمثابة (الروح) لذلك المذياع، وليظل هدير مذيعيها معه طوال معظم ساعات النهار، حاملاً إليه أخبار العالم وحكايات الدنيا.

كانت أهمية إذاعة بي بي سي تزداد يوماً بعد يومٍ عند كثيرين في ستينيات القرن الماضي،  نظراً لدقة معلوماتها، رغم تلك الظلال التي كانت الحقبة الاستعمارية للمنطقة ما تزال تلقيها عليها.

كان بعض الآباء يقول: "لا بأس أن نعي ما لا يعجبنا في معلومات إذاعة لندن (بي بي سي) بنفس القدر الذي نراه في بقية أخبارها التي تعجبنا" فالحقيقة مُرَّةٌ دائماً، ويكفي أن هذه الإذاعة تقولها بقدرٍ مقبولٍ من الدقة والتوازن.

حلم في اليقظة 

لكن زمناً طويلاً لم يمض حتى دلفت قدماي بأول خطوة داخل مبنى (بوش هاوس)، حيث كانت إذاعة بي بي سي تتخذ منه مقراً لها.

كنت في ذلك الحين طالباً مبتعثاً لدراسة اللغة الإنجليزية في لندن، وما أزال قادراً على تذكر تلك اللحظة التي طوقت فيها شقراء شابة عنقي بخيط يحمل تصريحاً بالسماح لي بزيارة المبنى، وسيدة أخرى اصطحبتني معها للتعرف على غرف واستوديو الأخبار في الإذاعة.

جاء دخولي هذا إلى مبنى، أعرق إذاعة في العالم، بعد أقل من أسبوع فقط على قدومي للدراسة في لندن ونزولي في أحد فنادق حي (إدجوار رود) وسط المدينة، ولا أعرف أنني أريد شيئاً من بريطانيا سوى أن أتعرف على مناخ العمل وتقنياته داخل ذلك المبنى الذي يرسل أثيره الأسطوري عبر الهواء مباشرةً من لندن إلى ذلك المذياع (الترانزستور) مَن طراز (فيليبس) الذي كنت أتحلق حوله في منزلنا، وأشعر بالزهو عند سماح والدي لبعض جيراننا بمشاركتنا السماع إليه في بعض الأوقات.

مما أتذكره أنني يومذاك سألت بعفويةٍ بالغة مرافقتي التي طافت بي ببعض الغرف التي يعمل فيها أشخاص باديةٌ عليهم الهمة والحيوية والثقة بالنفس، أين تقع ساعة (بيغ بن) التي نسمع دقاتها قبيل نشرات الأخبار وكيف يصل صوت دقاتها إلى استوديو الإذاعة!

وشاءت الأقدار أن أعود إلى إذاعة لندن مرة ثانية كمتدرب في التحرير الإخباري، حيث عرفت وقتها أسس وقواعد هذا الفن.

كان كل يوم للتدريب يبدو مثيراً أكثر من ذي قبل، ابتداءً من خروجي من مكان إقامتي في نُزُل (بيمونت هاوس) في حي (كوينز واي) بمحاذاة حديقة (هايد بارك) ثم نزولي إلى محطة قطار الأنفاق للتوجه نحو محطة (هيلبورن) ومن هناك إلى مبنى (بوش هاوس) المقر التاريخي القديم للإذاعة.

ثم تتوالى أيام التدريب الرائعة على أيدي مذيعين ذربين كبار، غزيري المعرفة، وذوي كفاءة وأداء عاليين في فن الإلقاء، ومهارات مذهلة في الترجمة الفورية والنقل السريع من وإلى اللغتين العربية والإنجليزية.

 لا أزال أتذكر ممن عرفتهم حينذاك (حسن أبو العلا، جميل عازار، سامي حداد، حسن معوض، حمدي فرج الله) وآخرين غيرهم.

كان عديد من الأسئلة كثيراً ما يدور في ذهني.. صحيحٌ أننا نأتي لنتعلم في هذه الإمبراطورية الإعلامية فنون التحرير الإخباري، بما هي قواعد معينة في صياغة (الخبر) ونفصله عن التعليق والتحليل بشكل أفضل من تلك الصياغات التي اعتدنا معها على الحشو والبلاغة والإنشاء، والخطابة، ولكن هل يُعقل أن يأتي أبناء (الضاد) لتعلم قواعد النحو والصرف ومهارات الإلقاء بلغة أمتهم في بلاد الإنجليز؟ 

غير أن الحقيقة هي أن هذا ما كان قد حدث عندما استقطبت إذاعة بي بي سي نُخباً منتقاة من خيرة الصحفيين الأدباء للعمل في تحرير الأخبار وإعداد البرامج الإخبارية والسياسية وحتى الأدبية والفنية.

 لا بد أن كثيرين منا يتذكرون (الطيب صالح) أحد أبرز كتاب الرواية العرب، و(حسن الكرمي) صاحب برنامج (قول على قول) و(مديحة المدفعي) و(فؤاد حداد) ودورهم في تثقيف مستمعي الإذاعة العرب بلغتهم.

انقطعت بعد ذلك علاقتي بمؤسسة بي بي سي خلال دراستي الجامعية وانشغالي بالعمل التليفزيوني والصحافة الأدبية في صنعاء.

غير أن تلك الأيام تركت أثرها عميقاً في وجداني لدرجة أنني في زيارتي وإجازاتي اللاحقة لم أكن لأسكن سوى في ذلك الفندق المتواضع والتجوال بين حي (كوينز واي)، حيث تقع مكتبة (الساقي) التي اشتري منها ما كان وقتها ممنوعاً من النشر في العالم العربي، وبين بحيرة (البجع) في عالم (هايد بارك) القريب.

في إحدى تلكم الزيارات بعد أن تم تعييني العام 1986 مديراً عاماً للتأهيل والتدريب في المؤسسة اليمنية للإذاعة والتليفزيون سعيت إلى إعادة إحياء علاقتي السابقة بهيئة الإذاعة البريطانية من خلال عدد من المنح والدورات التدريبية التي توليت الإشراف عليها، وتوفيرها لعدد من الزملاء في الإذاعة والتليفزيون، وذلك في كل من: لندن وصنعاء وعدن.

وخلال لقائي بمدير الخدمة العربية (جيمون ماكليلان) عند زيارتي لمقر الإذاعة في لندن قدم المسؤول البريطاني عرضاً سخياً لتوفير عشرات المنح والفرص التدريبية للمذيعين ومحرري الأخبار مقابل السماح بإقامة محطتين لتقوية بث إذاعة بي بي سي على موجات إف إم، وكاد العرض أن يحظى بالموافقة عليه بعد زيارات متتالية لحسن أبو العلا وماكليلان إلى صنعاء، كما تم القيام ببث مشترك بين إذاعتي صنعاء وبي بي سي العربية.

غير أن عراقيل غريبة ومخاوف غير مبررة وُضعت أمام ذلك العرض، ما أدى إلى فشله، واضطررت بعد ذلك إلى الاستقالة والتقدم للعمل في وظيفة مذيع لدى الهيئة، لكن عرضاً آخر بالعمل تلقيته وأنا في لندن للانضمام إلى فريق من تليفزيون بي بي سي السابق للعمل لدى محطة (الجزيرة) كمراسل ومدير إقليمي في اليمن وشرق إفريقيا.

خلال تلك الفترة كانت قيم الإذاعة البريطانية ما تزال سائدة في مناخ القناة القطرية إلى أن جرت بعد ذلك مياهٌ كثيرةٌ تحت الجسر، وانتقلت للعمل مراسلاً ومديراً لمكتب قناة (العربية) في الخرطوم وشرق إفريقيا، ومن ثم العمل لدى وكالة (رويترز) في العاصمة الكينية نيروبي.

ولكن تشاء الأقدار أن أعود من جديد إلى هيئة الإذاعة البريطانية بعد انطلاق التليفزيون العربي العام 2007.

أدركت خلال عملي في التليفزيون بعضاً من عمالقة الإذاعة، وكان من بينهم (حسن معوض، فواد عبدالرازق، حسام شبلاق، محمود المسلمي، علي أسعد، وسهيل عرنكا، ونورالدين زورقي) وإلى جانب عدد من الجيل الذي تلاهم سعدت بالعمل برفقة سمير فرح، بسام عنداري، عادل سليمان، محمد الشايش، ناهد نجار، وغيرهم.

وأحياناً كثيرة، كانت إذاعة بي بي سي تطلب مني إعداد تقارير خاصة بها إلى جانب إعادة إنتاج تقاريري المتلفزة لإذاعتها في نشراتها.

 كما كانت الإذاعة تستضيفني للتعليق على بعض الأحداث في اليمن ومنطقة الخليج وشرق إفريقيا، وفي شؤون أخرى متصلة بالصحافة والأدب.

ومع أن العمل التليفزيوني استحوذ على معظم تجربتي الإعلامية داخل مؤسسة بي بي سي إلاَّ أن فترات التدريب والعمل التي حظيت بها لدى هيئة الإذاعة البريطانية منذ أمدٍ بعيد كانت من أكثر ما يمكن لصحفي أن يعتبره أفضل منحةٍ وامتياز له في حياته.

قبيل الوداع:

اليوم أتهيب اللحظة التي لن أجد بعدها أثيراً لإذاعة بي بي سي يملأ الدنيا بأصوات مذيعيها الكبار، ولن يعود المكان ليهتز على رؤوس الساعات بدقَّات ساعة (بيغ بن).

أخشى إلاَّ أجد من أعود إليه من جهابذة إذاعة بي بي سي للتدقيق معهم في بعض الجوانب التحريرية واللغوية.

نعم، يحزنني أن إذاعةً بحجم (جامعة) ستغلق أبوابها، وأن موازياً لنهر (التيمز) سيتوقف عن التدفق حد الجفاف.

لن يكون بعد (هنا لندن) ما يشبهه هنا أو هناك، بل سوف يخيم صمت ثقيل ولا نهائي.

غير أن المؤكد هو أن أصداء دقات (بيغ بن) من إذاعة بي بي سي لن تبارح الوجدان ولا الذاكرة!

*من صفحة الكاتب على الفيسبوك