د. صادق القاضي
بين قيم الملائكة ونزوات الشياطين!
ربما لم يكن طيب الذكر، "تشي جيفارا"، ليصبح أحد أبرز الرموز الثورية العالمية الملهمة، وتصبح صورته الظلية أيقونة ساطعة في كل مكان من العالم، وشارة عالمية ضمن الثقافات اليسارية والشعبية.. لو أنه كان قد عاش وانتصر وصار رئيساً لبلده الأرجنتين.
ربما كان ذلك الملاك سيتحول إلى مجرد ديكتاتور آخر، على غرار رفيق دربه "فيدل كاسترو" الذي كان يشاركه في كل شيء تقريباً، لكنه انتصر ووصل إلى السلطة. فاستأثر لنفسه بمنصب رئاسة كوبا لمدة 55 عاماً، من 1959 : 2016".!
ربما هكذا معظم من نعتبرهم رموزاً خالدة للقيم والمُثل العليا، من الثوار والمصلحين والمناضلين والقديسين ورجال الدين.. الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل القيم التي آمنوا بها، والمبادئ التي اعتنقوها، وسجلوا أروع النماذج الملهمة للتجرد والإخلاص والتضحية والفداء.
كانوا صادقين للغاية في إيمانهم بالمبادئ، مخلصين لها، متفانين في التضحية من أجلها.. لكن ماذا لو أنهم ظلوا أحياءً، ووصلوا إلى السلطة: هل كانوا سيحترمون ويعملون وفق تلك المبادئ والقيم، ويجسدونها في سلوكياتهم وقراراتهم الخاصة والعامة؟!
لا شك أن بعضهم كان سيحترمها ويعمل بها، ولو جزئياً. لكن الإنسان بطبعه مزيج من التناقضات. من الخير والشر، وفي العادة يظهر جانبه الملائكي عندما يكون في الظل والهامش والمعارضة، في حين توقظ السلطة شياطينه النائمة.
هذه التحولات قد تكون إرادية مخططاً لها، بانتهازية من قبل الأوغاد، كما في قول البردوني عن أحدهم:
كان لصّاً محصناً إن تولَى .. وطنياً إذا غدا مستقيلا!
لكن حتى أكثر الناس صدقاً والتزاماً في المعارضة هم عرضة لها عندما يصلون إلى السلطة. كما لو كانت حتمية سياسية، وعلى هذا الأساس تشكلت الحكمة القائلة: "عندما ينتصر الأنبياء تنهزم نبوءاتهم".!
السلطة لها غواياتها. في السلطة يمكن للثائر أن يضحي من أجل نفسه بالقيم والمبادئ التي كان مستعداً للتضحية بروحه من أجلها، وهكذا تبلورت الحكمة الخالدة الأخرى: "الموت من أجل المبادئ أسهل من الحياة بها".
هذه الحكمة لا تصح فقط على معظم الثوار والمناضلين الذين يتحولون بمجرد انتصارهم إلى طغاة ومستبدين وفاسدين ولصوص وسماسرة وخونة.. بل أيضاً على من يفترض أنهم الأكثر نقاءً وإخلاصاً، كالصحابة والأولياء. العشرة المبشرون بالجنة كانوا مستعدين تماماً للموت في سبيل الله. لكنهم لم يكونوا مستعدين للحياة في سبيل الله. فتناحروا على السلطة، وشرب بعضهم دماء بعض.!
السلطة ساحرة، تخلب الألباب وتفسد النفوس، ولا علاج لمشكلتها إلا بتفتيتها وجعلها جماعية بشكل مؤسسي منظم. وهذا بالضبط هو المعنى الحقيقي للديمقراطية. وفي مقابل أن السلطة الفردية تفسد حتى أرواح الملائكة. السلطة الجماعية تكبح حتى نزوات الشياطين.