كان مطرف بن شهاب الهمداني الذي تنتمي إليه فرقة "المطرفية" الزيدية أول يمني زيدي وقف في وجه هذا التفسير السياسي العنصري لمفهوم "الإمامة" التي أصبحت مع "الهادوية" تعني سلطة السلالة السياسية في ظل أيديولوجية المخترعة.
وفي سبيل ذلك خاض هذا الثائر المتعبد في القرن الخامس الهجري مع أتباعه الذين سُمّوا بالمطرفية جدالاً فكرياً وسياسياً حاداً مع فرقة المخترعة التي كان يقف على رأسها حينئذ الإمام المتطرف عبد الله بن حمزة.
وهذا يعني أن الزيدية في اليمن قد انقسمت في القرن الخامس الهجري إلى مطرفية ومخترعة {ايديولوجية السلطة السلالية}.
وفي خضم هذا الجدل السياسي والفكري تم الإتيان من بلاد الرافدين "العراق" بمؤلفات المعتزلة إلى اليمن للاحتجاج بها في خضم هذا الجدل غير البريئ أساساً من سؤال السياسة، لا سيما وأن المطرفية قد وضعت يومها المستقبل السياسي للسلالة السياسية على المحك.
كانت أهم آراء مطرف بن شهاب تقول إن الأفضلية بين الناس تقوم على أساس عمل الإنسان وتقواه وأن الخلافة أو الإمامة {السلطة} تجوز في عامة الناس وليس كما تقول المخترعه في "آل البيت" من نسل علي وفاطمة.
اتسمت آراء مطرف بن شهاب الهمداني بالعقلانية والنزعة الوطنية كما يقول البعض تجاه فلسفة ومعتقدات السلالة السياسية.
وبدلاً من حسم هذا الخلاف بين أجنحة الزيدية بالحجة العقلية "خاصة وأن ثوابت المذهب الزيدي تقول بتقديم العقل على النص، بل إن القاسم الرسي الذي يعد المؤسس الفعلي للمذهب الزيدي يقول بأن العقل مقدم على نص القرآن في الاستدلال" كما نجد ذلك في كتاب الزيدية للدكتور احمد محمود صبحي.
نعود ونقول بدلاً من الأخذ بالمنهج الزيدي ومقارعة حجة المطرفية بالحجة العقلية أقدم الإمام المتطرف سلالياً عبدالله بن حمزة وبدوافع سياسية على إشعال حربه الضروس على فرقة المطرفية.
وقد تمكن هذا المتطرف السلالي خلال هذه الحرب غير المتكافئة من استئصال شافة المطرفية عن آخرهم وهدم وإحراق بيوتهم ومراكزهم التعليمية التي كانت تعد بمصطلح اليوم عبارة عن معاهد يتم فيها التدريس والسكن على حساب المتبرعين وفاعلي الخير.
لهذا فإن إقدام الحركة "الحوثية" في الوقت الحاضر على تفجير بيوت ومنازل المعارضين لها ليس عملا خاصا بها بقدر ما هو امتداد لممارسة أئمة الهادوية المخترعة ضد خصومهم السياسيين أو المتمردين عليهم.
وقد استمر العمل بهدم وإحراق البيوت حتى في ظل سلطة "المملكة المتوكلية" على يد الإمام يحيى وابنه الإمام أحمد.
الغريب في الأمر أن عبد الله بن حمزة نفسه يصف المطرفية في مؤلفاته بالعباد والزهاد، كما يحدثنا الدكتور على محمد زيد في كتابه - معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره- بل يذهب للقول في قدرتهم على تحمل مشقة العبادة وقراءة القرآن طوال اليل بدون أن يذوقون النوم، ما يعني أن الرجل من حيث لا يدري يؤكد بأن حربه ضد المطرفية كانت حربا بدوافع سياسية وليست دينية.
والسبب أن المطرفية قالت للأتباع من أبناء المذهب الزيدي رأياً عقلياً بدا في نظر المخترعة يمس مستقبل السلالة السياسية في اليمن.
ومع هذه الحقيقة فإن المؤكد أن المطرفية وثورتها الفكرية العقلانية داخل الزيدية لم تكن تعبر عن مفهوم القبيلة السياسية وحضورها في معادلة الصراع السياسي مع عبدالله بن حمزة، في تلك الحقبة من التاريخ السياسي، لكنها -أي القبيلة السياسية- دخلت بعد ذلك مع السلالة السياسية في تنافس محموم على زعامة المكون الزيدي في اليمن كانتماء جيوسياسي.
لم يتوقف انتصار المخترعة الهادوية بقيادة إمامها المتطرف "سلالياً" عبد الله بن حمزة على فرقة المطرفية عند حدود القضاء المادي والفكري على وجود هذه الجماعة المتنورة ثقافياً وسياسياً -وهو ما كان يعد في حقيقة الأمر انتصارا سياسيا لمشروع السلالة السياسية- بل ذهب هذا الانتصار للنيل من أعضاء هذه الجماعة على المستوى الاجتماعي ومكانتهم الاجتماعية، بحيث تم تصنيفهم بعد ذلك بكونهم كانوا من أسافل القوم بهدف خلق فجوة كبيرة بينهم وبين أبناء القبيلة التي كانت وما زالت تستغرق بنية المجال الاجتماعي للجيوسياسية الزيدية، هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية، فإن تاريخنا العربي والإسلامي يقول إن الانتصار العسكري على أي حركة تنويرية أو ثورة تنادي بالعدالة والمساواة يعقبه تشهير إعلامي ممنهج يهدف إلى النيل منها حتى بعد أن يغادر أفراد هذه الجماعة عالمنا إلى العالم الآخر، وذلك من أجل تسفيه الفكرة التي تبنتها في وعي الأجيال القادمة، كما حدث، على سبيل المثال وليس الحصر، مع ثورة الزنج بقيادة علي بن محمد التي قامت على أساس الملكية العامة، أو حركة القرامطة التي نادت بالعادلة بقيادة علي بن الفضل التي قيل فيها ما لم يقل مالك في الخمر، ومع المعتزلة التي أعلت من شأن العقل بعد انقلاب الخليفة المتوكل على الله العباسي.
في واقع الحال كانت سلطة الإمامة الزيدية الهادوية {سلطة السلالة السياسية} لا تملك جيشا نظاميا عقائديا يتكفل بحماية مشروعها السياسي في حكم اليمن.
لذا كانت القبيلة الزيدية هي الجناح الحربي أو القوة الضاربة التي منحت السلالة السياسية، مسألة الديمومة السياسية في تولي مقاليد الحكم في اليمن، منذ القرن الثالث الهجري إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
ما يعني في النتيجة أن مسألة ولاء شيوخ القبائل اليمنية من عدمه كان كفيلا بشكل رئيسي بتحديد عمر دولة هذا الإمام أو ذاك، لا سيما حين يحدث صراع مسلح بين أبناء السلالة السياسية أنفسهم على استحقاق لقب الإمام وهو ما ساهم بشكل كبير في مسألة بقاء القبيلة قوية ومتماسكة في هذه المساحة الجيوسياسية من اليمن.. لكنها، أي القبيلة، كانت وقودا لحروب الأئمة على تولي مقاليد السلطة.
مع تولي سلطة السلالة السياسية ظلت القبيلة حاضرة تمارس دورها التاريخي والوظيفي داخل المجال الاجتماعي للجيوسياسية الزيدية، بالمعنى الذي يجعل منها حالة انتماء وهوية للفرد.
وهذا ما جعل إمام السلالة السياسية مضطراً للحفاظ على مصالح وامتيازات شيخ القبيلة وإن كان ذلك على حساب مصالح رعيته الذين يمثلون القاعدة الاجتماعية للقبيلة، خصوصاً وأن شيخ القبيلة ظل يعمل على تسخير الإمكانيات البشرية والحربية للقبيلة في الدفاع عن سلطة الإمامة، لانه رأى في إمام السلالة السياسية مخرجا من دائرة الصراع المستمر بين شيوخ القبائل اليمنية على تولي مقاليد السلطة السياسية.
وإذا كان إمام السلالة السياسية سيظل داخل فضاء المجال الاجتماعي من حيث الانتماء القبلي طرفا محايدا وسط تدافع المكونات القبيلة، فهذا يعني أن السلطة السياسية لم تعد بيد قبيلة من القبائل اليمنية بالمعنى الذي سوف ينقلها إلى داخل المجال السياسي العام.
بمعنى آخر عدم تحول القبيلة الاجتماعية إلى قبيلة سياسية تحكم القبائل الأخرى.
وهذا إذا كان من جهة أولى قد دفع القبائل اليمنية في القرن الثالث الهجري إلى قبول دعوة الهادي بن الحسين بعد مجيئه من جبل رأس بطلب من شيوخ القبائل اليمنية إلى صعدة في عام 84 هجرية، فإنه من جهة ثانية قد ساهم في مسألة التأصيل/ الوجداني/ الديني المذهبي/ لمشروع السلالة السياسية الذي تحول مع المخترعة إلى أيديولوجية سياسية سلطوية عرقية.
ما يعني في النتيجة أن سلطة السلالة السياسية الإمامية ساهمت إلى حد كبير في خلق ثقافة المركز المقدس التي قامت عليها دولة الجيوسياسية الزيدية الممانعة لفكرة الدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن.