د. صادق القاضي
السياسة.. وصراع الرؤوس والمؤخرات!
من التعبيرات السياسية الكنائية الشائعة، أن السلطة مقعدٌ وحيد لا يتسع لأكثر من مؤخرة واحدة.!
يقتضي هذا، في حال تزاحم أكثر من مؤخرة، على المقعد، صراعاً يبدو حتمياً بينها، لا بد لمؤخرة ما أن تزيح المؤخرات الأخرى، وتنفرد بالمقعد الشائك الملتهب.
يحدث هذا بالضرورة حتى لو كانت المؤخرتان تعودان لأخوين، كالأمين والمأمون، أبناء هارون الرشيد في الامبراطورية العباسية، أو حتى لابن وأبيه، كما في الإمارة الخليجية قطر.!
وخلال تدافع المؤخرات يحدث، في الغالب، دحرجة بعض الرؤوس الكبيرة، والكثير من الرؤوس الصغيرة التابعة التي قررت خوض صراع لا رأس لها فيه، ولا مؤخرة.
ولأن ذلك المقعد المهم، حرون ومضطرب وخطر.. كثيراً ما يُزاح الرأس المنتصر من عليه بنفس طريقته في إزاحة الرؤوس السابقة.
في صدر الإسلام، قال أحدهم: "رأيت رأس الحسين (مقطوعاً)، بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد، بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير، بين يدي المختار بن أبي عبيد، ثم رأيت رأس المختار بن أبي عبيد، بين يدي الحجاج بن يوسف الثقفي".!
ما تزال هذه الدوامة الدموية، هي جوهرياً الطريقة الرسمية، في تداول السلطة في معظم دول العالمين الإسلامي والعربي، فلا يمكن لمؤخرة أن تجلس على كرسي السلطة، دون إرسال كثير من الرؤوس إلى الآخرة، أو السجون أو المنافي!
السلطة هي هكذا بطبيعتها: امرأة حسناء مغرية، يحلم بها كثيرون، والسياسي فحل غيور، لا يمكن أن يقبل شريكاً له في زوجته، كما كان يفعل بعضهم في الجاهلية، تحت عنوان "الضمد". قال أَبو ذؤيب الهذلي:
تُرِيدِينَ كَيمَا تَجْمَعينِى وَخَالِدَاً ... وَهَلْ يُجْمَعُ السِّيْفَانِ وَيْحَكِ فِي غمْدِ؟!
هذا المصرع الأخير أصبح مثلاً سياسياً شهيراً على أن السلطة لا تصلح لأكثر من شخص أو طرف واحد، وعندما توفي النبي(ص) اختلف المهاجرون والأنصار حول خلافته، واقترح بعضهم فكرة تعيين أميرين: "منا أمير ومنكم أمير"، فقال عمر بن الخطاب: "سيفان في غمد واحد!! إذاً لا يصطلحان".
وهذا هو الوضع الطبيعي للدولة في كل زمان ومكان، مع وجود حالات شاذة مؤقتة. كما في لبنان حالياً. "حزب الله" دولة داخل دولة، و"حسن نصر الله" رئيس بجانب الرئيس، يشاركه في الصلاحيات والمهام وصناعة القرار.!
اليمن أكثر تعبيراً عن هذه الحالة الاستثنائية: أرخبيل من الدويلات تحكمها سلطات أمر واقع، بمثابة أزواج وسيوف ورؤوس تتشارك مكاناً لا يتسع لأكثر من طرف واحد، ولا بد في الأخير من التخلص من الأزواج والسيوف والرؤوس والمؤخرات المنافسة.
في الأنظمة المتقدمة، تم حل هذه الإشكالية، بالتداول السلمي للسلطة، وفي الأنظمة الملكية التقليدية، تم حلها بالتداول الوراثي، أما في الأنظمة الممسوخة، فلا مفر من صراع الرؤوس والمؤخرات، لا بد من قيام أحدهم، بإزاحة آخر، أو آخرين، والاستواء على العرش، وحده، لا شريك له!
المفارقة العجيبة، أنهم يسمون هذه اللعنة لعبة سياسية، إذ رغم كونها لا تخلو من الدهاء وبراعة المراوغة، إلا أنها قد تعتمد فحسب على مجرد القوة، وبشكل عام على العنف ومخالفة القواعد المفترضة.
من جهة أخرى، فإن تسمية هذه المطحنة العملاقة لعبة فيه تبسيط مخل لما يحدث بين رحاياها من فجائع وأهوال في كل مرة تجازف فيها الرؤوس الكبيرة، بكل شيء، من أجل مقعد وحيد، يعرفون تماماً أنه لا يدوم لمؤخرة.!