في واحدة من حارات صنعاء، رأيت وسمعت رجلًا كبيرًا في السن، يتجول ببطء حاملًا بيده راديو صغيراً، مع صوت أغنية قديمة لـ نادر الجرادي تتردد كأصداء الليل والفراق، أغنية من زمن الجمال القديم، تكسر جمود الليل والظلام وتعيد الذكريات والزمان الجميل، نادر الجرادي بينما يرثي نفسه في ليالينا الحزينة: "يا باطلاه، سار الذي تمنيت، وعادنا يا ناس ما تهنيت".. كغصة باقية من سنوات السابقين، غصة الأغنية اليمنية، وحزن الليالي العابرة، ليس الأمر للمصادفة.. أن يشعر المرء برحيله المبكر، بأغنيته وألحانه، لتصير بعده تراثًا عن الذكريات والشعور بالمغادرة، عن فنان جميل ذهب بلا مقدمات، وقبلها كان يشعر بما يحيط به من خيال، بجحود الحياة وخذلان الزمان، يحدث حينما يحبك الناس بلا شعور، بينما تصبح صوتًا في حياتهم بلا تحديات، تتشكل في قلبك تنبؤات، وألحان تلهج كثيرًا بالرحيل، مع الكثير الكثير من الشعور القريب بالرحيل..
غصة نادر الجرادي ما تزال تحفر في قلوبنا كلما سمعناه.. أنا لا أتوقف عن سماعه كل يوم.. ودائمًا أقول: الله الله يا نادر الجرادي كم كان صوتك طفرة في حياتنا.. في شوارعنا، وأسواقنا، ووسائل مواصلاتنا، في مناسباتنا ورغبتنا المتزايدة في البقاء، وفي كل متعلقات حياتنا.. كان صوتًا عن أيامنا، وصار ذكرى عن سعادتنا.. رحل مبكرًا وبقيت أغانيه تتردد بمعظم أوقاتنا وليالينا، أغانيه التي تدوي بمقدمة رأسي بينما تقول: فكم تحملته وكم تراشيت، وكم بكيت من باطله وأنيت.. كفنان مغروس في ذاكرة الجمال عنا وعن أيامنا الماضية والباقية..
طيب الله ذكره، نادر الجرادي، روحًا ما تزال عالقةً في تفاصيلنا القديمة والجميلة، وأغنياتٍ خالدة وحاضرة في ليالينا وحياتنا الدائمة.. البومه الغنائي الوحيد يعتبر اليوم من تراث اليمنيين وذكرياتهم المشتركة، صوته واسمه مخلدان في ذاكرتنا الشاملة، كأنه صوت أخير يغني عن أرواحنا الحزينة والمتلاشية، صوت يقول بنبراته المبحوحة دائمًا: يا عذابي..
من صفحة الكاتب على الفيسبوك