محمد العلائي
عن الوطنية في رواية "أوراق" لـ عبدالله العروي
رواية "أوراق" للمفكر والكاتب المغربي عبدالله العروي أشبه باعترافات شخصية مُقنَّعة.
إدريس بطل الرواية هو العروي نفسه.
أسلوب الكتابة في الرواية لَمْعُ بروق، الإيقاع في كل صفحة متسارع راقص.
إشارات ولمحات خاطفة يستعيد فيها العروي جانباً من سنواته التكوينية ككاتب ومفكر ومؤرخ وشريك فاعل في الهمّ الوطني المغربي.
سأعرض هنا اعترافا واحدا فقط من اعترافات إدريس الكثيرة، وسأذكر في الأخير لماذا اخترته بالذات.
يعترف إدريس بأنه في مرحلة من شبابه وقع تحت سحر وغواية فلسفة نيتشه، فاستحوذ عليه بأسلوبه في الكتابة، واخترقته أفكاره وتعاليمه الجامحة حول الدين والإرادة والقوة والفردية وتحطيم الأصنام والأوهام.
ومع ذلك، هناك قِيَم جماعية كثيرة ظلت قوية وراسخة في نفس إدريس، فلم يطلها معول نيتشه بالهدم "وفي مقدمتها الوطنية"، لقد "بقيتْ في ذهن إدريس حُجُب لم تخترقها أشعة نيتشه".
وبينما كان على إدريس -مثلاً- أن يفهم من فلسفة نيتشه أن "الوطنية" وهمٌ باطل "وصنم يجب تكسيره"، فإنه لم يفعل، والسبب أنه مغربي وليس ألمانياً كما كان نيتشه، وأن لهذا الفارق بينهما اعتبارا لا ينبغي تجاهله، فكتبَ إدريس في يومياته قائلاً:
"الوطنية حِمى وملجأ كالأسرة.
نَقَدَ نيتشه القومية الألمانية المنتصرة، بل الذهنية الجرمانية الرزينة الغمامية، وفضّل عليها روح اللاتين الخفيفة اللامعة. إلا أن القومية في ظروف ألمانيا رأي الأغلبية، ميل الجمهور. معارضتها إذن دليل على حرية الفرد.
الوضع في المغرب مختلف... رأي الجمهور المغربي هو (ادخل سوق رأسك)؛ فكرة التضحية في سبيل الجماعة لا يقول بها إلا أقل القليل، فتصبح الوطنية هنا لون الذات القوية، عنوان ميل الفرد إلى الحياة المأسوية.
ليس الانتماء في هذه الحال رمز الانغماس في الجماعة بل سبيل إلى الترفّع عنها.
الوطنية الواثقة بنفسها ملجأ، وهم يحجب الوعي ويهدىء الأعصاب، الوطنية المضطهدة مفارقة، ترفُّع، مخاطرة".
انتهى كلام إدريس.
شَدَّني اعترافه هذا على وجه التحديد، لأني أحبُّ هذه الطريقة في التعامل مع الكتُب العظيمة والكُتّاب العظام؛ فمن خلالها يستطيع القارىء أن يميِّز بين ما يستحق الأخذ وما يستحق الترك، وبين ما يمكن استلهامه والإفادة منه، في حياته الخاصة أو في الحياة العامة لبلده، وما يمكن تكييفه وإصلاحه، وبين ما يجب إهماله كلياً والإنصراف عنه.