محمد العلائي
عن "الدولة القُطرية" وبدائلها (3) العروبة الوحدوية المناضلة
على مدى عقود من السعي للتحقق السياسي على الأرض، فإن أقصى ما بلغته العروبة الوحدوية المناضلة لم يتعد تجربة التنظيمات الحزيية التبشيرية العابرة للحدود الوطنية القطرية، كحزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم في -وياللمفارقة- في دولتين قُطريتين هما: سوريا والعراق.
وهناك أيضاً حركة القوميين العرب.
وربما كان اعتناق جمال عبد الناصر للفكرة الوحدوية العروبية كعقيدة لنظامه الحاكم في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952م هو أكبر انتصاراتها.
وقد شكلت الناصرية والبعثية قطبي الحركة العربية الرئيسيين.
وإذا كانت الناصرية عروبة بلون مصري مجسَّدة في زعيم محبوب، فإن البعثية تنظيم حزبي مزدوج اللون: شامي وعراقي، على الأقل بحكم انتماء مؤسسي ومنظري البعث الأوائل إلى الشام بالدرجة الأولى (زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وصلاح البيطار) والعراق (فؤاد الركابي).
كان الفرق بين الناصرية والبعث، كما يقول هشام جعيط "أن الناصرية عمل أكثر منها نظر، في حين أن البعث هو في آنٍ نظر وعمل"، والناصرية خلافاً للبعثية رفعت الوطنية المصرية إلى الذروة، وحولت الوعي الإسلامي القديم في مصر إلى العروبة، وخلطت صورياً بين الطموح المصري والطموح العربي، وتجسمت العروبة الناصرية في رجل واحد صاحب إشعاع وكاريزما.
في الخلفية من هذا التعدد ثلاثي القطبية كان يكمن وعي تاريخي عميق ومضمر بتنافس قديم بين ثلاثة مراكز حضارية في ثلاثة أقاليم:
القاهرة ودمشق وبغداد، والمدن الثلاث كان لها أدوار بارزة في التاريخ الإمبراطوري العربي الإسلامي.
وقد حاول عبد الناصر من جهته أن يجعل من مصر نموذجا لـ الإقليم القاعدة بتعبير نديم البيطار، أي أن تكون مركز عمل وتعبئة نحو التوحيد العربي على الطريقة البروسية الألمانية بزعامة بسمارك.
وكان النموذج البروسي أحد نماذج القياس المفضَّلة لدى مفكري الوحدوية العربية، ويا له من قياس مضلَّل!
وكخطوة أولى في مسار الوحدة العربية، تم الإعلان عام 1958م عن الوحدة بين مصر وسوريا، وسُمّيت دولة الوحدة "الجمهورية العربية المتحدة"، وانضمت إلى الاتحاد اليمن الإمامية المتوكلية ولم يأخذ أحد انضمامها على محمل الجد.
وسرعان ما تحطمت الرؤى الوردية على صخرة الوقائع، وإن أشد الوقائع قسوة هو: انفصال سوريا عام 1961م، وهزيمة حزيران 1967م.
على أن انفصال سوريا لم يعقبه أي اطِّراح من جانب الطرفين للدعاوى الوحدوية العروبية. لقد كان المزاج العام في ذلك الوقت يسمح بخيانة الوحدة العربية بالعمل مع الوفاء لها بالقول. [عام 1962م، بعد الانفصال، أسَّس عبد الناصر حزب الاتحاد العربي الاشتراكي].
في الظاهر، بدت واقعتا الانفصال ونكسة 1967م وكأنهما شارة النهاية للعروبة في صيغتها الناصرية فقط.
أما في العمق فقد كان ذانك الحدثان الزلزالان بداية موت ناجز للطوباوية الوحدوية العربية المتعالية على الواقع برمِّتها.
وقد نتج عن كل ذلك موجات ارتداد واسعة ومتنوعة، بعضها صريح وبعضها موارب. وكان للردة وجهتان كبيرتين:
1- ردَّة باتجاه طوبى الوحدة الإسلامية، عبرت عن نفسها من خلال ما سمي بـ الإسلام السياسي.
ورغم أن أفق هذه الردة من الناحية النظرية أوسع من أفق العروبة وأكثر استحالة على التحقق السياسي منها، إلا أنها على مستوى التجربة تتحقق في ضروب مؤسفة من التطييف الديني والتجزيء والاقتتال الأهلي.
2- ردَّة باتجاه الخصوصية المحلية في حدود الدولة الوطنية القُطرية، وهو ما يعني الذهاب بعيداً في التصالح الفكري والأخلاقي والوجداني مع هذه الدولة التي ظلت الأيديولوجية العروبية تشيع عنها بأنها "خطيئة الاستعمار". هذه الردة، رغم الابتذال الذي يشوبها أحياناً، صحية أكثر من الردة من النوع الأول.
في مصر السبعينات تعالت أصوات الردة من النوع الثاني.
فكتب توفيق الحكيم "عودة الوعي" وأتبعه بعد سنوات بمقالة "مصر والحياد".
وكان الحكيم قد بدأ حياته الأدبية كاتباً مُشبعاً بروح الوطنية المصرية المُفرطة في الخصوصية.
أغلب مسرحياته ومقالاته كانت تنمّ عن رغبة قوية في إحياء الشعور بالسمات المصرية المتميزة، والتنبيه بإلحاح إلى الأصول السرمدية البعيدة التي تمنح شخصية المصري الفرادة بل والتفوّق.
كان هذا النمط من الخطاب شائعاً في ثقافة وآداب تلك الحقبة، إلا أن بوادره الأولى ظهرت في القرن التاسع عشر بواسطة سلسلة من الأعلام الكبار: رفاعة الطهطاوي وأحمد زكي باشا ومصطفى كامل باشا وأحمد عرابي ومحمد عبده وأحمد شوقي.
الحكيم ينتمي إلى طبقة تالية من الرواد تضم أمثال لطفي السيد ومحمد حسين هيكل بك وسلامة موسى (أبرز دعاة العودة إلى الهوية المصرية الفرعونية) وطه حسين والعقاد وإسماعيل مظهر والرافعي وأحمد أمين وصولاً إلى نجيب محفوظ.
على أن مصرية هؤلاء، واعتدادهم بالماضي الفرعوني البعيد، لم يكن في غالبيته على تعارض صريح مع العروبة في حال كان الأمر يقتصر على عروبة اللسان والثقافة والآداب لا عروبة السياسة والفتوح والوحدة والدولة.
وقد بقي الحكيم كعهده مخلصاً لمصريته إلى أن قامت ثورة 23 يوليو، فأخذته الموجة العروبية السياسية الناصرية في مدَّها العظيم الذي لا يُقاوَم.
وسمح لنزعته المصرية الأصيلة القوية بالتراجع قليلاً إلى الخلف، وراح يساير الموجة الجديدة بكل عواطفه، مستسلماً لسحرها الجارف.
كان الحكيم قبل ثورة يوليو كاتباً مرموقاً في بلاده، وكان لكتبه ومسرحياته سهم كبير في التكوين الروحي والوطني للشاب جمال عبد الناصر، وبالأخص رواية "عودة الروح" التي نشرت عام 1933م.
وتذكر المصادر أن عبد الناصر أراد أن يكون التجسيد التاريخي لـ"المعبود رمز الغاية" الذي كان الحكيم قد صوَّر تعطش الشعب إليه في رواية "عودة الروح".
ثم حدثت هزيمة عام 1967م، فنزلت على رأس الحكيم كأنها الطامّة، وأنعشتْ نزعته المصرية الغافية في صدره.
عدا أن الخوف منعه من التصريح بما أحيته "النكسة" في نفسه.
ما إن توفي الزعيم عبد الناصر حتى بادر الحكيم إلى إصدار كتاب الردة تحت عنوان "عودة الوعي".
الكتاب أشبه بالاعتراف: رجل راشد يحاول القول أنه تعرض للتغرير والخداع وأنه تائب.
لم تقف ردته عند هذا الحد، ففي منتصف السبعينات كتب الحكيم مقالاً في الأهرام يدعو فيه إلى انكفاء مصر على ذاتها بعيداً عن العرب و"بلاويهم" والالتزام بالحياد "على الطريقة السويسرية" في كل صراعات المنطقة.
كان ذلك إعلاناً سافراً بالردة عن "العروبة السياسية" وأعبائها، فقد حمَّلها الحكيم المسؤولية عما مُنيت به مصر من الخسائر والنكبات، قائلاً إنها كلفتها "واجبات" للآخرين دون "حقوق".
في الفترة ذاتها، وبالتحديد عام 1976م، ندَّت عن الروائي نجيب محفوظ أقوال صحفية تنحو هذا المنحى ومفادها أن العرب يتفرجون على مصر في محنتها وأن المصريين يواجهون التعاسة من أجل فلسطين والعروبة.
وفي رواية "أمام العرش، حوار مع رجال مصر من مينا إلى السادات" التي صدرت عام 1983م يصوغ نجيب محفوظ احتجاجاً عنيفاً ضد نزعة جمال عبد الناصر العروبية، ويقدمه على لسان الملك مينا (توفي 3125 قبل الميلاد) الذي يُنسَب إليه توحيد مصر العليا والسفلى لأول مرة في التاريخ:
"وتكلم الملك مينا فقال [مخاطباً عبد الناصر]: ولكن اهتمامك بالوحدة العربية فاقَ اهتمامك بالوحدة المصرية، فحتى اسم مصر الخالد شطبتَه بجرة قلم، واضطررت العديد من أبناء مصر إلى الهجرة التي لم يمارسوها إلا في فترات قهر عابرة!".
وفي هذا الحديث عن شطب "اسم مصر الخالد" إشارة إلى "الجمهورية العربية المتحدة"، وهو الاسم الرسمي للكيان السياسي الناشىء عن الوحدة المصرية مع سوريا عام 1958م والتي لم تُعمَّر أكثر من أربع سنوات.
وفي عام 1979م كتب الفيلسوف والمفكر المصري زكي نجيب محمود مقالاً في الأهرام بعنوان "العروبة ثقافة لا سياسة".
وهكذا، ومع مرور الوقت صارت "الوحدة العربية" أقرب ما تكون إلى أداة سياسية يُستعان بها فقط لتعزيز الشرعية الداخلية المحلية بالنسبة لمن يتبناها من النظم العربية الحاكمة في خطابها وشعاراتها حتى لو كان سلوكها في الواقع مناقضا لها، فقد بقي العراق البعثي وحدويا عروبيا خطاباً وفكراً، وقُطريا إقليميا في الممارسة والتشكيل الحكومي والعمل.. وهكذا كانت سوريا البعثية، وكان الانقسام والعداء بين هاتين الدولتين البعثيتين أكثر صخباً من أنشودة الوحدة والعروبة، فالعروبة في سوريا والعراق كانت مضافة إلى اسم الدولة القُطرية.